لكل متاع سقط متاع.. والعلم متاع سقطه الغرر بتحصيله. فالعلم يؤخذ كله أو يترك كله، حيث يكاد العلم يكون الشيء الوحيد الذي يمثل الحصول على «نصفه» خطورة لا تقارن بها خطورة تحصيل كل كلياته! وما ذلك إلا لأن نصف العلم يمثل نصف الجهل، والحقيقة ذات النصف المجهول جاهلية.
إن انتفاء التعليم كلية قد يكون في بعض الأحيان أجدى - أو أسلم - من اكتساب سقط المتاع علميا، ولنا في تجربة أجدادنا ما هو في الحقيقة جدير بالتأمل والتمعن والاحتذاء. فرغم إقرارنا بجهل هؤلاء الرواد فمن ذا الذي يجرؤ ليسلبهم فضيلة «الحكمة» التي سكنت كياناتهم وصبغت أفكارهم وكست سلوكياتهم، وهنا نتساءل: كيف أدى يا ترى «عدم التعليم» إلى اكتساب الحكمة وفوق ذلك اكتساب الحصانة ضد آفات الجهل وتبعاته ونواتجه؟! إن السبب الرئيس في ذلك يعود إلى أن أجدادنا قد استدمجوا حقيقة مفادها إن عدم تعلمهم من الواجب ألا يدفع بهم إلى التقاعس والكسل والخمول، الأمر الذي دفع بهم إلى محاولة تعويض فقدان الفرصة للتعلم عن طريق الشحذ «الذاتي» والتفعيل الواقعي لقدراتهم ومهاراتهم ومواهبهم الذاتية، هذا وكان من نتيجة ذلك أن نجحوا بكل تفوق في تحقيق المقادير اللازمة من الاستقلالية الفكرية والجرعات المناسبة من العزيمة والإصرار رغم كل ما نضح به وجودهم من قسوة واتسمت به بيئتهم من سوء أحوال.
بصيغة أخرى الوقاية من داء نصف العلم تتمثل في حال انتفاء التعلم الشامل في عدم التعلم البتة.. وهذا هو ما فعله أجدادنا حيث حافظوا بذلك على سلامة غرائزهم الفطرية لاكتساب الحكمة وبذلك حموها أيضاً من امكانية الانقراض «بلا بديل».. أو الذوبان في متاهات الإرباك والتأرجح بين بين: بين تحقيق نصف العلم والوهم باكتسابه كلية. فالعلم هو الشيء الوحيد الذي يمثل الحصول على «نصفه» خطورة تبعاتها أشد خطراً من عملية تحصيله كله، وما ذلك إلا لكون نصف العلم يمثل الجهل نصفه الآخر، عليه فبازدياد «التعلم الجاهل» تتراكم أنصاف الحقائق بل تنقلب رؤوس الحقائق على أعقابها، وهنا تستنسخ المؤثرات إلى متأثرات، وتتحول الفواعل إلى مفاعيل بها، وتتحور المستقلات المتبوعة إلى توابع، وهنا يستأسد الجهل ويعيث التجهيل كسادا وفسادا وإفسادا لتفقد الغايات «الغاية» من وسائلها، بل تتحول هي ذاتها إلى وسائل لا غايات لها، وتختلط مضامين وجواهر الأشياء بقشور ظواهرها، وتتشابك معالم السلبيات بعلائم الإيجابيات، ويمتزج الغث بالسمين، ويتبادل الثابت والمتغير الأزمنة والأمكنة، وفي الأخير ينتصر المثالي المأمول مضحياً هو الحكْم والحَكَم في آن رغم أنف حقيقة عدم تحققه أصلاً.. بل رغم حقيقة استحالة تحققه على أرض واقع هو أضيق من أن يسعه.
|