* بغداد د. حميد عبدالله
* اذا كان ناظم الغزالي هو اول سفير للاغنية العراقية في عقد الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي ولم يخلفه احد في حمل هذا اللقب سوى كاظم الساهر في عقد التسعينات، فان الموسيقار والملحن العراقي الشاعر سالم حسين الأمير هو اول من نقل التراث الغنائي والموسيقى العراقي إلى الوطن العربي والعالم، ولم ينافسه احد في ذلك لا من ابناء جيله ولا من الذين جاءوا بعده من الفنانين والملحنين.
* وسالم حسين ليس مجرد ملحن او موسيقار او شاعر بل هو مؤرخ وباحث الَّف الكثير من الكتب التي طبع بعضها وما زال بعضها الآخر محفوظا، وربما لا يصدق البعض ان الرجل قد لحن 450 اغنية جميعها مسجلة ومنغمة ومصورة، وهذه الحقيقة لا يعرفها حتى اصدقاء سالم والفنانون العراقيون المقربون منه.
* أما اسفاره ورحلاته الفنية فقد حصد منها صداقات مع كبار الفنانين العرب الذين جمعته معهم ذكريات والحان واغان واشعار.
* لم يحمل لقب موسيقار اعتباطا، بل حمله باعتراف فنانين كبار امثال محمد القصبجي ورياض السمباطي وعبدالحليم نويرة وحليم الرومي ومحمد حسن الشجاعي، وقد كرم بهذا اللقب بعد تألقه في قصيدة:«يا جهادا صفق المجد له».
اينانا تغنى لديموزي
* لقد صدحت اصوات كبار المطربين العراقيين والعرب بألحان وضعها سالم حسين، فقد لحن للمطربة نور الهدى اغنيتها الشهيرة «اترى يذكرونه أم نسوه» وهي من كلمات ايليا ابو ماضي، ولحن لوديع الصافي قصيدة المتنبي الشهيرة «ما لنا كلنا جوى يا رسول..
انا اهوى وقلبك المتبول»، ولسعاد محمد اغنية «ياساكن ابديرتنه» و«روح عني» ولفائدة كامل« على بغداد ودوني» وألّف ولحن اغنية«الناصرية» لاسماعيل شبانة ولهذه الاغنية قصة سيرويها سالم حسين لاحقاً اما من العراقيين فقد لحن للفنانة سليمة مراد، ومائدة نزهت، ولميعة توفيق، وغادة سالم، وخالدة، والمطربة هناء.
* في منزله ببغداد وجدت سالم حسين يدندن وأمامه كتاب من الحجم العريض والكبير مكتوب باللغة الانكليزية، فيما تحتل الرموز الموسيقية صفحات منه، وحين سألته عما يفعله بهذا الكتاب أجابني انه يترجم اغنية باللغة الحورية «وهي امتداد للغة البابلية» اكتشفتها البروفيسورة «آن كلمر» أستاذة الآثار في جامعة شيكاغو وهي مسجلة بصوتها، وقد عثر على هذه باهتمام وزير الثقافة العراقي حامد يوسف حمادي فطلب من الفنان سالم حسين الاسراع بترجمتها وتلحينها، ولديه اشرطة صوتية تؤدي فيها البروفيسورة «آن كلمر» الاغنية باللغة الحورية.
* هذه الاغنية قادتني إلى سؤال طرحته على سالم حسين عن حقيقة ان اول اغنية حب في التاريخ ظهرت في العراق؟
أجابني سالم حسين.. نعم ان اول اغنية حب في التاريخ ظهرت في بلاد الرافدين في عام 2500 ق.م بين اينانا او عشتار«آلهة الحب» وديموزي او تموز«إله الخصب»، حيث كان تموز يحب عشتار وعشتار تحب فلاحاً غيره، لكن اصرار تموز على حبه لعشتار جعلها تحبه حتى كتب عنه هذه الاغنية:
ايها العريس.. حبيب انت الى قلبي
وسيم انت.. حلو كالعسل
ايها الاسد.. حبيب الى قلبي.. وسيم جميل
حلو كالعسل..
* ومن اكتشف هذه الاغنية؟ واين؟
* الاغنية وجدت في مدينة «اور» عاصمة الاكديين «400 كم جنوب بغداد»، وقد اكتشفها الاثاري الانكليزي«وولي» وذلك عام 1927، وكانت مكتوبة باللغة السومرية، وعثر ايضاً في نفس المكان على القيثارة الذهبية ومعها 9 قيثارات اخرى.
* ومن اين جاءت تسمية القيثارة؟
توصلت التراجم اليونانية الى ان اصل كلمة قيثارة مشتقة من الكلمة البابلية«كناروم» بكسر الكاف وتشديد النون كما جاء في الكتابة المسمارية في عهد حمورابي 1728- 1686 ق. م وهكذا اصبحت«كنارة» ثم قيثارة.
* ويصف لنا سالم حسين القيثارة الذهبية التي عثر عليها في اور فيقول انها تتكون من صندوق صوتي وساقين جانبين وحامل اوتار افقي يصل ما بين الساقين الجانبين، اما شكل الصندوق فهو على شكل رأس ثور ذهبي تتدلى منه لحية من الجوهر وفي عينيه حجران من الزمرد الازرق والابيض لذا اطلق عليها بالقيثارة الذهبية وهي موجودة الآن في المتحف العراقي، اما القيثارات التسع الاخرى فموجودة في المتحف البريطاني في لندن اما اوتار القيثارة فعددها 11 وتراً والسلم الموسيقي للقيثارة هو بسبع درجات كما هو معمول به حالياً.
وتهدج صوت سالم حسين واغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول: اخشى على القيثارة السومرية ان يطالها القصف الامريكي فصنعت واحدة شبيهة لها واصبحت ترافقني في حلي وترحالي، وأناشد كل المتحضرين في العالم ان يحموا الآثار العراقية من صواريخ كروز وطائرات الشبح لأن في حمايتها حماية لكل ما هو نبيل وجميل وحضاري.
* قصة اغنية
* نعود إلى اغنية«الناصرية» وكيف اصبحت اغنية الموسم في مصر، لقد كان سالم حسين جالساً في احدى كازينوهات القاهرة مع أحمد رامي، وطلب رامي من سالم حسين ان يسمعه شيئاً من الغناء الصعيدي «الريفي» في العراق، واعطاه آلة القانون فمر سالم حسين بلحظات حرجة حيث غابت عن باله جميع أغاني الريف، فارتجل اغنية«الناصرية» تأليفاً واداء، وعندما بدأ يرددها جلبت انتباه الجالسين ومعظمهم من الفنانين فاقتربوا منه وتحلقوا حوله ومن بينهم إسماعيل شبانة، ونجاة علي، وخلال ايام اذيعت الاغنية من اذاعة القاهرة بصوت إسماعيل شبانة واصبحت اغنية الموسم، والطريف في امر هذه الاغنية ان المصريين كانوا يعتقدون ان المقصود ب «الناصرية» هي الاتجاه الناصري نسبة إلى جمال عبدالناصر في حين قصد سالم حسين بالناصرية مدينة الناصرية في العراق وهي مسقط رأسه ومسرح طفولته.
* الفارابي عازف قانون
* حديث سالم حسين مليء بالمفاجآت، وأغرب مفاجأة سمعتها منه ان احد بحوثه تحول إلى اغنية، فقد عكف على دراسة طريقة«الاجناس» الموسيقية عند الفارابي وتوصل إلى حقيقة مهمة مؤداها ان الفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني بعد افلاطون وضع السلم ب 24 درجة بدلاً من 12 درجة فهو موسيقار فضلاً عن كونه فيلسوفاً، وقد لحن سالم حسين قصيدة للفارابي غنتها الفنانة العراقية مائدة نزهت تقول:
فان تقاعد جسمي عن لقائكم
الا وقلبي اليكم شيق عجل
وهذه الاغنية لحنت على طريقة الفارابي المعروفة بطريقة الاجناس.
* ام كلثوم غادة النيل!
* في مصر ام الدنيا امضى سالم حسيين سنة كاملة بدعوة من الفنان فريد الاطرش الذي التقاه في بيروت عام 1961، وفي القاهرة تعرف على نجوم الغناء المصري، والتقى بأم كلثوم وسحرته بشخصيتها وما زال منبهراً بها حتى الآن.
* وبينما كان في القاهرة جالساً مع أحمد رامي التقته احدى مقدمات البرامج وسألته ان كان قد كتب شعراً في مصر فأجابها: نعم.. وعندما طلبت منه ان يقرأ لها شيئاً من ذلك الشعر، وضع في موقف لا يحسد عليه فهو لم يكتب شعراً ذا قيمة ولكنه في تلك اللحظة تجسدت امامه شخصية أم كلثوم فارتجل قصيدة بحقها قال فيها:
بشاطئ النيل مرت غير عارفة
ان المتيم في شوق للقياها
سمراء تحكي دنا فرعون سحنتها
وكليوباترا هدتها النجل عيناها
بالبشر حييتها واليسر يغمرها
من ذا الذي يا ترى بالورد حيَّاها
يا ام كلثوم يا سحراً تملكني
طفلاً فتنت بها والقلب غناها
كان ذلك في يوم 1961/8/8 ورغم مرور 41 عاماً الا ان موسيقار بغداد ما زال مسحوراً بعمالقة الفن في أم الدنيا.