كنت - ولما أزل - مشغولاً بتقصي الخطابات والتصريحات المتلاحقة اللاهثة وراء بعضها، ومتابعة الرحلات المكوكية واستباق الزمن بما يذرعه أو يُفيض به إلى آفاق المعمورة أخطر ناطق بالوعد والوعيد وما يتبعه من مؤسسات ومن رجالات، لم يقيدوا نعمة القطبية، ولم يحسنوا استغلال ظروفها ومعطياتها. بحيث تجلت مثبطات الغطرسة من ضجة العالم، وتصدع الوئام بين رموز القادة الغربيين في سابقة لا مثيل لها. وكان المعنيون بخطابات التهديد والوعيد والمجاورون لهم، يتفحصون المنطوق، وينقبون عن المضمر بحذر وخوف وتفاؤل، ويستمطرون قرَّاء الكف، ومفككي الشفرات، وحذاق التأويل، لمعرفة المستبطن وما تحت السطور، ويستشرفون ما سيتركه الحلان العسكري أو الدبلوماسي، وهما الخياران اللذان يستبقان الصدارة، ويَقِدُّ كل واحد منهما قميص الآخر من قبل أو من دبر. وخطابات الزعيم المتعالي وتصريحاته إن لم تترجم إلى فعل ناجز، أوضع خلال الفرقاء يبغيهم الفتنة، وممن حولنا من المتربصين سماعون لهم، وما أن يتفوه بوعده أو وعيده، حتى يتلقفهما المترجمون بالصوت الفوري، ثم يتعقبهم آخرون بالتفكيك والتشريح والتقويض بحثاً عن المضمرات، وتطوعاً لايصال ذلك كله إلى المعنيين بالترغيب أو الترهيب، عبر رؤى وتصورات وتأويلات تدع العاقل في حيرة من أمره، ولاسيما ما يعقب ذلك من تعليقات ودراسات تضرب في فجاج التخرصات، لقد سمعت لغطاً تؤزه أوكار الحقد ومدافن الضغينة، ويتهافت عليه الخليون والماكرون والطيبون، ممن لا يحسنون فك الشفرات، ولا قراءة ما تحت السطور، ولأن هذا اللغط يحز إلى العظم، فقد عدت إلى خبراتي وقراءاتي ومتابعاتي، عبر كل المطبوعات والقنوات والمواقع، استعين بها لفلك الطلاسم، ومعرفة أي الخيارات أجدى وأهدى لأمة لا تقدر على دفع الأذى عن نفسها، والفتن التي تعصف في أرجاء الوطن العربي لا تهدد بلداً عربياً، ولا تكسر عظماً (أيديولوجياً) واحداً دون غيره، إنها فتن عمياء، تهب كالريح العقيم، فتقتلع الأشجار المثمرة، وتهدم البيوت المأهولة، وتذرو الأسواق العامرة، تقتل الشيخ المنقطع، والعجوز المتبتلة، والطفل الرضيع، والعذراء المخدَّرة حياء وعفة. والواقع العربي بهذه الفتن الهوجاء لا تقف فيه على وفاق سياسي، ولا ثقافي ولا إعلامي، فقادته وجلون، ومفكروه مرتابون، وعامته متخبطون،والكل في غمة كاسفة، ليس لها من دون الله كاشفة، حتى يقول الناجي من أهل الحل والعقد: اللهم إني لا أسألك إلا نفسي، ولربما عاد التاريخ ليذر قرنه من جديد، فقلد قال الرجل الصنم: «تركيا للأتراك» واليوم، وتحت الضغوط والفتن عاد آخرون يؤكدون القطرية، فيما تلاشت سائر الانتماءات، وقد يكون لبعض أولئك شيء من الحق، فعندما تدلهم المشاكل، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فلكل زعيم وقطر شأن يغنيه، فعاجز عن توفير الرغيف ومتخاذل عن حماية الثغور، ومشغول بقهر المصفدين والتحسس عن الخلايا النائمة، وما أكثر العجزة في زمن بلغت فيه الأمة الدرك الأسفل من الذلة والهوان. وبعد لأي ومشقة ويأس محبط عدلت عن قراءة الخطابات ومثيراتها، وعدت أفكر في واقع عربي مؤلم، يصنع عذاباته بيده، ويعمق فرقته بلسانه، تؤزه نار الكلمات الحاقدة، وتوقظ فتنه النائمة زعانف لا تلوي على مثمنات معنوية ولا مادية، وأخوف ما يخاف العقلاء من صعاليك يتسكعون في سوق النخاسة البلاغية، يقول قائلهم:
«أنا الغريق فما خوفي من البلل؟».
والعالم العربي بما كسبت أيدي عملائه ومغفليه وثواره ومقامريه، وبما اقترفته بعض ألسنة إعلامية، وبما حبّرته أقلام كتابه، يمر بمرحلة حرجة، ومنعطف خطير، فكل اقليم لديه ما يذهله عن غيره، وصدق الله: {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً} فالفتن المشتعلة في بقاع العالم عامة، وفي أرجاء العالم العربي خاصة، وعلى أرض الخليج وما جاورها بالأخص، بلغت حداً لا يطاق، وما من دولة عربية بقادرة على اتخاذ قرار مستقل، لا يتقي ولا يداهن، وبوادر الاستعمار الذي لملم نثاره، ورحل بثمن باهظ من الدماء الطاهرة، عاد من جديد، يذكيه الحقد الصهيوني، وتشعله بؤر التوتر في عالمنا الموبوء، من طائفية و«إثنية» ومشاكل حدودية ونزاعات قبلية، هذا الوجه الجديد الذي جاء بمسميات جديدة من «نظام عالمي» و«عولمة» وبمبررات مكافحة «الإرهاب» ونزع «السلاح» صنعناه بأيدينا، ليتحكم بالمصائر، ويؤدب بكسر العظام، وإحراق الأرض، وإشعال الفتن، ومن ورائه مرتزقة يجازفون بالتخوين والتجريم، وهم ربائب الغرب وأذنابه، هذا الوضع المتردي لا مثيل له إلا ما عرف من (حكم الطوائف) في الفردوس المفقود.
ومع أن مصالح العالم العربي على شفا جرف هار، فإن من يعَّول عليهم من علماء ومفكرين وساسة وإعلاميين، تستدرج الأندى صوتاً منهم الغوغاء، ويحدوهم لهيب العواطف، وتستخفهم المظهرية، وتغريهم الأضواء، فلا يقفون لتأمل، ولا يفرغون لمراجعة، وكيف تتأتى لهم فرص الاستخارة والاستشارة ومن حولهم من محترفي الإعلام والمتاجرين بالأقلام، يؤزمون المواقف، ويوغرون الصدور، وينبشون ماضياً دفيناً، وما أحد منهم حاول تقريب وجهات النظر، وسعى في نسيان المآسي، وسبق إلى تضميد الجراح، واثَّاقل عن نكئها، وفرَّ إلى الله، فهو القادر على كشف الضر، ومن أعوزه الدليل فليصخ إلى القنوات، أو ليقرأ الصحف، أو ليدخل إلى الشبكة «الإنترنت»، أو ليلق السمع إلى هدير المنابر، ليسمع التناقض العجيب، والتناحر الغريب، من همز ولمز وكل خطيب تحسبه واقفاً على ترسانة نووية، يلوم الآخرين ولا يحاسب النفس، ويدين الأبعدين، ويبرئ الذات، لا يدعو إلى تفكير، وإنما يحرض على تدمير، ولا يؤلف بين القلوب، وإنما يوغر الصدور، ومثمنات الأمة يفري حشاها الأبعدون، وما من حكيم يأطر على الحق، ويثبت القلوب الواجفة من الفتن الراجفة،فكل وجه إعلامي وهبه الله القدرة على الإثارة والجذب عمد راغباً أو راهباً إلى توظيف طاقاته لإشعال العداوات وإحياء الأحقاد، وكل كاتب قدير سخر قلمه للوقيعة، وتلفيق التهم، وإشاعة الكذب، والتحريض على الشر، وإحياء الضغائن والأحقاد بين الأخ وأخيه والجار وجاره، وكل عالم متمكن أجهد نفسه سعياً وراء فتوى مرجوحة لتفريق الكلمة، وتكريس الطائفية والمذهبية، ونبش عفن التاريخ، وكل سياسي أجهده الركض وراء سراب القيعان، بحثاً عن الحماية من الأخ وابن العم، وما درى أولئك أنهم بهذا الركون المبادر أو المضطر مأكولون، وقصة الثيران الثلاثة تعيد نفسها، كما التاريخ، ومقولة :«أكلت يوم أكل الثور البيض»، ليست ببعيدة، إن علينا قراءة تاريخ الفردوس المفقود إذ ما أشبه الليلة بالبارحة، وبديهي أنه عندما تبلغ الروح الحلقوم تضيق الخيارات، وتنعدم فرصة المراجعات، ولا يبقى إلا طريق قاصد: إما الفرار إلى الله: وإما التردي في الهاوية، وبعد انكشاف الضر، لا بد من المراجعة والمساءلة، لكيلا تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وكم أبدأنا القول وأعدناه، وناشدنا الفرقاء تضميد الجراح، وتناسي ما فات، وتجاوز المرحلة العصيبة، ونصحنا بالسكينة ولزوم الجماعة، والبحث فيما يرأب الصدع، ويستل الضغائن، فما بأيدينا صرنا إلى ما صرنا إليه، إن هناك تحولات ومصائر تطاولت مع الزمن، وقضيت بليل، وقلنا وما زلنا نقول: - إن اللعب بالنار حول الهشيم ينذر بحريق هائل، يأكل الرطب واليابس، وها هي طبول الحرب الخليجية الثالثة التي ستكون أرض الخليج وإنسانها مسرحاً ووقوداً لها، تقترب من درجة الصفر، وبطل المغامرات يتعنتر تارة، ويستخذي تارة أخرى، يجني على قومه، ويلجئ من لا ناقة لهم ولا جمل إلى مواقف الضعف، حتى لا يجدوا بداً من الدفع بالتي هي أسوأ، ومتى انقشعت الغيوم، عاد كالهرة التي تأكل أولادها، أنهك المنطقة، وشل حركتها، وقتل شبابها، وأحيا نساءها للترمل والضياع، وعوق أصحاءها، وشرد أهلها وأذل شرفاءها، ولما يزل يجد من يموء من ورائه، الأمر الذي جعل الحليم حيران، فبقاء مثله مظلمة كبرى، وضرب أمة منهكة من أجل تصفيته جريمة لا تغتفر، وليس أضر على الأمة من نقيضين لابد من ارتكاب أحدهما، ومع انبلاج الحق يظل الناس في حيرة وتردد وتناقض، فلا تخلو الاجتماعات المصيرية من رافض أو متحفظ أو مقاطع، ولا تخلو البيانات من أسلوب دبلوماسي مراوغ، يحفظ ماء الوجه، ويعدد المخارج، والقطب الواحد لا يضع عصاه عن كتفه، يشج رأس هذا، ويكسر عظم ذاك، يستقدمه خائف، ويشرعن لفعله موتور، ويشيطنه متصعلك، ويتحداه غريق لا يخشى من البلل، ومن الظواهر الحدية التي لا تحتمل المراء تلقف ذلك القطب لراية الاستعمار البغيض التي كانت في يوم من الأيام بيد امبراطورية لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها، وبعض الشر أهون من بعض، فميزة الاستعمار القديم أنه يعتمد التفتيت والتفريق، والتماكر والمخادعة والإيمان بمبدأ «آخر الطب الكي» وتسمين المحلوب والمأكول فيما يذهب الاستعمار الجديد إلى أن الأجدى والأهدى أن يكون «الكي» و«الانهاك» أولاً. وليس من المعقول أن يعيد المستعمر نفسه في زمن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، فلكل زمام أنماطه وأساليبه، وليس من المعقول أن يقبل أحد بالوجود الأجنبي، مهما كان الثمن، على أن مواجهة المتغيرات المصيرية باهظة التكاليف، والدول المستهدفة هي التي ستدفع الثمن، وأمريكا التي تزحف بترسانتها، وتزج بشبابها، لن تعطي المتفرجين شيئاً من الكعكة، ومن ثم فسوف يحل الخلاف مكان الوفاق، قد تنتصر في المنظور القريب، وسيظل الناس جميعاً يخافونها، ويحسبون لها ألف حساب، ولكن دولة الظلم لا تدوم، والمقتدرون مادياً أو استراتيجياً سيرتكبون أهون الضررين، وسيمنحونها تسهيلات أو دعماً غير مشروط، ولكنهم سيكونون معها كراكب الأسد، يخيف الناس، وهو منه أخوف، وعندما تقوم الأوضاع على الظلم والإكراه، تظل يد الظالم على الزناد، ويظل في حالة حرب، لا يفرغ لنفسه، ولا يدع الآخرين يفرغون لأنفسهم، ومن ثم يتعسكر العالم، ويدخل مرحلة إرهاب عنيف، يفضل فيها الجائع الرصاصة على الرغيف، في زمن لا يحتمل المزيد من الترديات والانهيارات الاقتصادية، التي بدأت نذرها بإفلاس شركات عملاقة.
وأمريكا اليوم تدخل مرحلة المقامرة والمغامرة، ومن ورائها أتباع مغررون، يجرون قدمها إلى الوحل، لتنشط تجارة السلاح، وتتسع رقعة الإرهاب، وسيظل العرب مسرحاً لكل الأحداث، والتوغل في هذا المسار سيعود عليها وعلى حلفائها وأصدقائها بالضرر، والشيء المؤكد أن مكافحة الإرهاب بعد الاتفاق على مفهومه عربياً وإسلامياً وعالمياً، وتغيير النظام في العراق ضرورة إنسانية، وواجب وطني، أما نزع السلاح فقضية فيها نظر، وفي الوقت ذاته فإن اضطلاع أمريكا بالمهمة منفردة، واستخدام القوة ليس ضرورياً ولا واجباً ولا حتمياً. ومع أن إشكاليات الحكم في العالم الثالث بحاجة إلى إعادة النظر إلا أن التدخل الخارجي غير مشروع، وغير نزيه، وغير عادل، فكم من أنظمة ظالمة متلاعبة، وجدت من يدعمها ويحميها، وكم من أنظمة وطنية عادلة، وجدت من يشكك في أهليتها، والمسألة لم تعد في صالح الشعوب المغيبة عن المغانم والمستحضرة في المكاره، لقد أسهم العالم الثالث في شرعنة التدخلات العسكرية، ورضي أن يكون مسرحاً للعب الكونية والتجريب الحي، ولما غفل اللاعب الأكبر عن الجيوب والخلايا الناسلة في ظل الانشغال بالعمليات المصيرية تحولت إلى ظواهر ليست بأقل خطراً من القضايا الرئيسية، وما التدخل في الصومال والسودان ولبنان ومن بعد في أفغانستان والعراق إلا لملمة لهذه الذيول، والطامة الكبرى تكمن في الجبهات الداخلية التي تنسل من حدب الظروف الصعبة وفي ساعة العسرة لتربك أهل احل والعقد، وتهيىء الأجواء لملائمة اللارتماء في أحضان العدو، وتمكينه من استعمال عصاه الغليظة، والأمة العربية التي تعيش أسوأ حالاتها، لم ترعو، ولم تعرف أسلوب التعامل مع الأحداث المصيرية، ونخبها وإعلاميوها ومفكروها يؤزون فتنها، ويعمقون فرقتها، ويمارسون التيئيس والاحباط، ويستبقون الأضواء بالحديث عن المسكوت عنه، ولم يفكر أحد منهم بجمع الكلمة، ورأب الصدع، والتقريب بين وجهات النظر، والحمل على التعاذر، وتناسي الضغائن والأحقاد، والعمل على تماسك الجبهات الداخلية، فويل ثم ويل لأمة يهدم صفوتها جبهتها الداخلية، وكأنهم بفعلهم يستعجلون العذاب، وما علموا أنه قد يأتيهم بغتة، وهم لا يشعرون.
|