سمعت الحديث الأخير لزعيم القاعدة أسامة بن لادن وتابعته في وسائل الإعلام، وأدركت أنه من حيث لا يشعر يعطي العالم الآخر مبرراً شرعياً لتحقيق مصالحه في بلاد المسلمين، الذين شككوا أيضاً في قيام التنظيم بأحداث 11 سبتمبر حتى خرج مباركاً ومؤيداً ذلك الهجوم وأقسم ألا تنعم الولايات المتحدة الأمريكية بالأمن، وشككوا في قيام التنظيم بأحداث المسرح في موسكو وتفجير بالي في اندونيسيا وتفجير ناقلة النفط الفرنسية على شاطىء اليمن، وكانت روسيا وأستراليا وفرنسا مع المسلمين في قضيتهم حتى خرج الزعيم وبارك العمليات وصرف هذه الدول ذات الثقل السياسي في القرار العالمي عن الوقوف مع المسلمين ثم خرج بحديث حاول من خلاله أن يعطي الولايات المتحدة الأمريكية مبرراً لضرب العراق وذلك بنصه على أن مصلحة التنظيم في حرب الولايات المتحدة تتفق مع مصلحة نظام العراق حتى وإن كان كافراً ليضع حاجزاً نفسياً بين المسلمين ونصرة الشعب العراقي ولو دبلوماسياً ثم خرج بحديث يدعو المسلمين إلى الفتنة والخروج على ولاة أمرهم وشن هجوم على علمائهم الكبار، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن كما قال الله سبحانه وتعالى:{وّاتَّقٍوا فٌتًنّةْ لاَّ تٍصٌيبّنَّ الذٌينّ ظّلّمٍوا مٌنكٍمً خّاصَّةْ}، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله».
ومن الفتنة أن يذكر الأئمة والعلماء على لسان المخالفين ليضفوا على كلامهم شرعية يقبلها الناس دون تمحيص لما وراء ذلك الاستشهاد والاقتباس، ومع الاسف الشديد من كثرة الفتن وتزاحمها بدأ الخلط ممن هم قليلو العلم وكثيرو الخوض في السياسة، ولا أدل على ذلك من الاستشهاد بذكر الإمام أحمد بن حنبل على لسان أسامة بن لادن الذي لا أطعن في شخصه ونيته أو اتهم عرضه وأبرأ إلى الله من ذلك الظلم، لأنني أعلم أن ذلك قد يؤذي أسرته التي هم جزء صالح من هذا الكيان الإسلامي الكبير كما أن أسلوب الشتم والظلم لا يروق لولاة الأمر في هذه البلاد الذين تأدبوا مع الآخرين واتصفوا بالحكمة والمعاملة الطيبة والعفو عند المقدرة تجاه المخالفين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» فتصير البدعة فاشية، وتفضي إلى التحزب والتعصب والفرقة على يد جهال النساك وعجلة بعض طلاب العلم وإنما أتناول فكره الخاطىء الذي حمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعباء لا تحتمل ونتمنى من الله أن يعود إلى طريق الصواب ويتوب إلى الله من هذا الخلط والتكفير والخروج ويتبع سبيل العلماء الكبار في نظرتهم للواقع وتنزيل النصوص الشرعية على ذلك الواقع بما يتفق مع مصلحة الأمة.
قال أسامة في حديثه الأخير: قال الإمام أحمد رحمه الله«من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال وأول هذه القيود والسدود في عصرنا الحاضر هم الحكام وشهداء الزور من علماء الزور ووزراء البلاط وأصحاب الأقلام المأجورة ومن شابههم».
وقال أيضا:«ومن قرأ سيرة الأئمة الصادقين في المحن كسيرة الإمام أحمد بن حنبل وغيره رحمه الله علم الفرق بين العلماء والعاملين والعلماء المداهنين كما في سيرة أعلام النبلاء وغيرهم».
ما هذا يا أسامة، إن الاستشهاد بالإمام أحمد بن حنبل دليل عليك لا لك وسيرته المملوءة بالمواقف المشرفة نبراس لعلماء الأمة وشبابها إلى يوم يبعثون، لقد كان ولي الأمر في عهده معتزلياً، يعطل الصفات ويرى أن القرآن مخلوق، ويلزم الناس بذلك ولذلك سجن الإمام أحمد ولم ينزع يداً من طاعة ولم يدع إلى الخروج وحرب الشوارع وقتل المستأمنين الذين لا يجوز قتلهم قال الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله «هذا لا يجوز الاعتداء على أي أحد سواءً كانوا سياحاً أو عمالاً لأنهم مستأمنون دخلوا بالأمان فلا يجوز الاعتداء» والخلل في العقيدة أعظم جرماً من المعاصي بأنواعها، وكان ينادي من تبنوا تلك الفتنة يا أمير المؤمنين مرهم فليأتوني بآية أو حديث.. وذكر الخلال في السنة أن فقهاء بغداد «وليسوا شباب أفغانستان» اجتمعوا عند الإمام أحمد، يستأذنونه بالخروج على الخليفة، لأن الأمر بلغ عظيماً لا يستحمل ولا يصبر عليه فقام غاضباً ينفض ثيابه ويردد بصوت عال «اتقوا الله في الدماء، اتقوا الله في الدماء» وذكر هذه القصة ابن مفلح في الآداب الشرعية، فقال«اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى ابي عبدالله يعني الإمام بن حنبل رحمه الله تعالى وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال عليكم بالإنكار في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين، ولاتسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا يعني نزع أيديهم من طاعته صواباً هذا خلاف الآثار، فهذه صورة تبين اهتمام السلف الصالح ومنهم الإمام أحمد بن حنبل بهذا الأمر وتشرح التطبيق العملي لمذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية.
ومن ينعم النظر في سيرة الأئمة كالأوزاعي ومالك والزهري والليث بن سعد وعطاء بن أبي رباح والإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل ومحمد إدريس وأحمد بن نوح وإسحاق بن راهويه وإخوانهم وما وقع في عصرهم من البدع العظام وإنكار الصفات ودعوا إلى ذلك وامتحنوا فيه وقتل من قتل كأحمد بن نصر ومع ذلك فلا يعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة ولا رأى الخروج عليهم وما علماءنا الكبار الذين تطعن فيهم وتصفهم بالمداهنة إلا سائرون على نهج أولئك الأئمة الكبار الذين يفهمون تطبيق النصوص الشرعية وينطلقون في ذلك من بصيرة المؤمن وبصره الثاقب في عواقب الأمور وبخاصة نحن في مجتمع يطبق شرع الله ويقيم حدوده ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وينشر البر والخير والإسلام، على يد ولاة الأمر في أماكن مختلفة من هذا العالم وأنا لا أجزم بخلوه من المعاصي والأخطاء ولكن العلاج يتم بالطرق الشرعية والنصح والإرشاد سرياً وليس على رؤوس الأشهاد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً» وقال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في خطبة حقوق الراعي والرعية«فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس.
ولم يراع أسامة في حديثه حالة المسلمين التي يمرون بها، ويعلن في كل موقف عن الاستنفار والتعبئة العامة والجهاد ضد أمم أقوى من المسلمين، وهو أمر يعلنه ولي الأمر في كل بلد إسلامي، حسبما تقتضيه مصلحة الأمة ولم يكتف بذلك بل نقل المعركة إلى أرض المسلمين، وهذه النظرة الثاقبة لم تخف على الأئمة الكبار من هم أمثال الشيخ محمد صالح العثيمين الذي قال في كتاب الجهاد من بلوغ المرام الدرس الأول بتاريخ 9/5/1415هـ ما يلي:
ومن السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بأمر فأتوا ما استطعتم» وهذا عام في كل أمر لأن قوله«بأمر» نكرة في سياق الشرط فيكون للعموم سواء أمر العبادات أو الجهاد أو غيره وأما الواقع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله وإلى الصلاة وبقي على هذا ثلاث عشرة سنة لم يؤمر بالجهاد مع شدة الإيذاء ولمتبعيه عليه الصلاة والسلام وقلة الأوامر أو قلة التكاليف أكثر أركان الإسلام ما وجبت إلا في المدينة ولكن هل أمروا بالقتال؟ لا لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون هم خائفون على أنفسهم، إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة خائفاً على نفسه وهذا معروف ولذلك لم يوجب الله عز وجل القتال إلا بعد أن صار للأمة الإسلامية دولة وقوة أمروا بالقتال {أٍذٌنّ لٌلَّذٌينّ يٍقّاتّلٍونّ بٌأّنَّهٍمً ظٍلٌمٍوا وّإنَّ اللّهّ عّلّى" نّصًرٌهٌمً لّقّدٌيرِ (39)} وعلى هذا فإن قال لنا قائل الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وإنجلترا لماذا؟ لعدم القدرة، الأسلحة التي ذهب عصرها عندهم هي التي بأيدينا وهي عند اسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد عند الصواريخ ما تفيد شيئاً فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء ولهذا أقول إنه من الحمق أن يقول قائل إنه يجب علينا الآن أن نقاتل أمريكا وفرنسا وإنجلترا وروسيا كيف نقاتل؟ هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعه لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمرنا لله به عز وجل {وّأّعٌدٍَوا لّهٍم مَّا اسًتّطّعًتٍم مٌَن قٍوَّةُ (60)} هذا الواجب علينا أن نعدلهم ما استطعنا لهم من قولة وأهم قوة نعدها هو الايمان والتقوى هو القوة لأننا بالإيمان والتقوى سوف نقضي على أهوائنا ونقضي أيضاً على تباطئنا وتثاقلنا ونقضي أيضاً على محبتنا للدنيا لأننا الآن نحب الدنيا ونكره الموت فالصحابة رضي الله عنهم المجاهدون حالهم عكس حالنا يريدون الموت ويكرهون الحياة في الذل، فالواجب أن نعد ما استطعنا من القوة وأولها الإيمان والتقوى ثم التسلح، الذي علم هؤلاء ألا يعلمنا؟ بلى، يعلمنا لكن لم نتحرك ثم في الواقع لو تحركنا قمعت الرؤوس ما نستطيع ولا حاجة إلى أن نعين لكم أنهم إذا رأوا دولة يمكن أن تنتعش بالأسلحة فعلوا ما فعلوا مما هو معلوم لكم، أقول إن الواجب الآن أن نستعد بالإيمان والتقوى وأن نبذل الجهد والشيء الذي لا نقدر عليه نحن غير مكلفين به ونستعين الله عز وجل على هؤلاء الأعداء ونحن نعلم أن الله عز وجل لو شاء لانتصر منهم كما قال تعالى {وّلّوً يّشّاءٍ اللّهٍ لانتّصّرّ مٌنًهٍمً وّلّكٌن لٌَيّبًلٍوّ بّعًضّكٍم بٌبّعًضُ وّالَّذٌينّ قٍتٌلٍوا فٌي سّبٌيلٌ اللهٌ فّلّن يٍضٌلَّ أّعًمّالّهٍمً} ، حتى لو ابتلى بعضنا ببعض وقتل منا فإن الله لن يضل أعمال هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله {سّيّهًدٌيهٌمً وّيٍصًلٌحٍ بّالّهٍمً (5) وّيٍدًخٌلٍهٍمٍ الجّنَّةّ عّرَّفّهّا لّهٍمً (6)} فالحاصل الذي أحب أن أقول وأأكد أنه لابد من القدرة أما مع عدم القدرة فإن الشرع والقدر يتفقان بأنه لا يجب علينا ما دمنا لا نستطيع الواقع والشرع كله يدل على هذا.
|