ما زال من لديه أدنى شعور تجاه قضايا أمته يعاني أثقل الهموم وطأة، وذلك لما وصلت اليه من أوضاع لا تسرُّ إلا أعداءها من الصهاينة والمتصهينين. وكانت الأيام الماضية بالذات حافلة بأحداث ذات دلالات واضحة في جهات كثيرة من العالم. فما برحت تزداد عنفاً حرب الابادة المجرمة التي يرتكبها الصهيونيون ضد الشعب الفلسطيني الصامد على الرغم من جبروت الأعداء ورؤيته أمته متسربلة بأثواب الهوان ترقب ما يمارس ضدها وينفذ لطمس هويتها. وبلاد صغيرة الحجم، قليلة العدد، ضعيفة الموارد، لكنها ثابتة الإرادة راسخة العزيمة، تتحدى القوة العظمى التي تفعل بالعرب والمسلمين الأفاعيل. وملايين البشر في جهات كثيرة من بلدان المعمورة تتظاهر معلنة رفضها القيام بحرب عدوانية على العراق. وزعماء الدين المسيحي المشهورون؛ مثل البابا في الفاتيكان ورئيسي الكنيستين الكبيرتين في بريطانيا، يشاركون أولئك المتظاهرين ما أعلنوه بل وصل الأمر الى ان أحد قادة أوروبا اضطر الى أن يحرج العرب في طلبه منهم أن يبدوا أي تحرك يدعم الجهود المبذولة من غيرهم للحيلولة دون ترك الحرب العدوانية.
على أني حاولت أن أهرب من واقع تلك الأحداث وان كان هذا الهروب مؤقتاً. وكان مما شجعني على تلك المحاولة جلسة مع صديق عزيز أجمل لي نظرته بقوله: ما يحدث أمر دبَّره الله وربما حلَّ بالأمة لأنها لم تقم بما وجب عليها القيام به ولو قامت بذلك لحالفها النصر. وضرب مثلين يدلان على صلابة ايمان من آمنوا منها. أولهما ما حققته المقاومة في جنوب لبنان، وثانيهما الصمود المنقطع النظير الذي يتصف به الشعب الفلسطيني وختم كلامه بقوله: ثق فإن نصر الله لعباده المؤمنين آت لا ريب فيه على الرغم من كل الظروف الحالية. ووافقته على ما قال التماساً لبصيص من نور التفاؤل، لكني تمنيت أن يرى جيلنا ذلك النصر.
وبعد تلك الجلسة مع الصديق العزيز انتابني شعور يسر لي طريق الهروب المؤقت من الهم الثقيل.
حظيت بقضاء اجازة عشرة أيام بمناسبة عيد الأضحى في مسقط رأسي، ومرتع طفولتي، ومسرح صباي: فيحاء القصيم الوطن الصغير كل ما فيه فردوس مشاعر فسيح: الأقارب، والأصدقاء، والأرض والبناء، والشجر والماء. كل من فيه وكل ما فيه ينابيع راحة، وجداول سعادة.
اعتدت في تلك الأيام العشرة أن انطلق مع شروق الشمس من بيتي الصغير في حارة الصفا لأتمشى بين مزارع الجناح؛ متمتعاً بالنسيم المداعب لنخيل تلك المزارع، المقبل للندى الثمل فوق رؤوس ما تحتها وما حولها من مختلف النباتات الخضراء. ولم تكن متعتي مقتصرة على ذلك الجو الجميل بل إن عبق التاريخ كان يمشي معي؛ خطوة خطوة؛ بدءاً بحارة الصفا حيث بيتي الصغير، ومروراً بمنطقة الجناح.
كان في تلك الحارة قصر اسمه قصر الصفا وقد شهد من الأحداث ما شهد. ومن ذلك ما أشار اليه المؤرخ النجدي، عثمان بن بشر. فقد أوضح ان الصلح الذي تم بين أهل الرس وابراهيم باشا بعد ان صمدوا أمامه صمود الأبطال أكثر من ثلاثة أشهر - أدى الى فزع أتباع الإمام عبدالله بن سعود، الذي كان مرابطاً في عنيزة، وتفرَّقت عنه البوادي. فلما عيَّد عيد النحر (1232هـ) أدخل في قصر الصفا مرابطة من بلدان نجد واستعمل عليهم أميراً محمد بن حسن بن سعود، وجعل لهم في القصر كثيراً من الطعام والبارود والحطب وجميع ما يحتاجون اليه.. وقد امتنعوا عن التسليم للباشا. فجرَّ عليهم القبوس والقنابر ورماهم بها رمياً هائلاً يوماً وليلة، وعمل زحافات دون رصاص أهل القصر، وقرَّب منهم القبوس والقنابر حتى ثلم جدار القصر ووقعت رصاصة من القنبر في القصر، فجعلها الله سبحانه على جبخانهم. وكان في موضع خافٍ في بطن الأرض ومسقَّف عليه بخشب كبار وفوقه طين وتراب، ولكن الله سبحانه إذا قضى أمراً كان مفعولاً. فثار الجبخان، وهدم ما حوله، ومات بسببه رجل أو رجلان..».. «فطلب أهل القصر المصالحة من الباشا، فصالحهم على دمائهم وأموالهم وسلاحهم، وخرجوا من القصر، ودخله الروم، ورحل المرابطة الى أوطانهم».
وكانت ديرة الجناح - وآل جناح فرع من بني خالد - عامرة عدة قرون قبل انشاء عنيزة، التي أسسها زهري بن جرَّاح السبيعي في النصف الأول من القرن السابع الهجري. وقد شهد القرن الثاني عشر الهجري بالذات صولات وجولات بين قادة الجناح وقادة عنيزة الى ان انتهى دور قادة الجناح تقريباً مع نهاية ذلك القرن، وأصبحت عنيزة مركز الثقل. وكانت بيوت الجناح حيَّة بسكانها عندما كنت صبياً أذهب مع أقراني الى قلبان المزارع المحيطة بها للسباحة. ولكن طبيعة النهضة العمرانية تجاوزتها، فارتحل سكانها الى بيوت حديثة خارجها، وبقي من بيوتها ما بقي شاهداً على تاريخ مليء بالعبر.
وميزة مدينة صغيرة الحجم؛ مثل عنيزة، أن سكانها يستطيعون التمتع بالراحة الى أبعد الحدود. وفي امكان المرء أن يزور أربعة من أصدقائه في وقت لا يتجاوز الساعتين. ولكل جلسة مع مجموعة من الأصدقاء في مسقط الرأس نكهتها الخاصة. ومن تلك الجلسات جلسة أبي عبدالله عبدالرحمن بن ابراهيم البسام، الذي وهبه الله لطفاً منقطع النظير، كما وهبه ذاكرة يتمنى شيئاً منها كاتب هذه السطور. فأحاديثه عن رجالات الوطن عموماً أحاديث لا تجارى؛ احاطة ودقة. ومن تلك الجلسات جلسة أبي ابراهيم عبدالرحمن البطحي، الذي منحه الله من الكرم ما منحه، وأنعم عليه بالتعمق بمختلف المجالات العلمية والإنسانية بما أنعم. ولا يمكن لمن سعد بجلسة هذا أو ذاك إلا أن يخرج بما يفيده ويسعده.
وبالخروج من منازل مرتع الطفولة ومزارعها الى برِّها برماله وغضاه تتعمَّق السعادة ويتَّسع الانشراح حتى ذلك البر لا يقتصر التمتُّع فيه على واقعه بل يمتد الى شيء من التاريخ فعندما يصبح المرء في تلك الرمال وبين أشجار ذلك الغضى تعود به الذاكرة الى شبابه والصور تتراقص في مخيلته. ومن ذلك تلك الأسر الكثيرة التي كانت تخرج الى البر إذا نبت الكلأ، وتستقيم ما دام النبات موجوداً؛ تتغذَّى عليه أغنامها، وتجمع ما تستطيع جمعه لكي تبيعه، فيسد ثمنه قسطاً من أعباء معيشتها.
ومن ذلك، أيضاً، رؤية جالب الحطب وهو يسوق بعيره متجهاً الى ا لسوق لبيعه، وكلما مرَّ من عند أطفال التمسوا منه «طرثوثاً» فمنحهم إيَّاه سعيداً، وتخاطفوه شاكرين.
وكان من بين الأماكن البرية التي ذهبت اليها الخبيبة المليئة بغابات الغضى. ومن عشق التاريخ مثلي لابد ان يتذكر فيها رجلاً كان له تاريخه العطر. ذلك الرجل هو أبو حمد، ابراهيم الحبودل، الذي زرع جزءاً من تلك المنطقة.
وكان مما سجله التاريخ لأبي حمد اقدامه في القضاء على مخرِّب عند الحجر الأسود، وموقفه الحازم عندما كان رئيساً لحملة أرزاق بعثها الوزير عبدالله بن سليمان - بتوجيه من الملك عبدالعزيز - الى جماعات من المواطنين أصابهم من القحط ما أصابهم. ومما سجله التاريخ له انه كان أحد المشرفين على المشروعات في الخرج، وانه أشرف على تعبيد طريق من قصر الحكم في الرياض الى خارجها، وأنه أشرف على تنفيذ مشروع مدّ أنابيب مياه الشرب لأحياء عنيزة المختلفة؛ وهو المشروع الذي تبرَّع بعمله الوزير عبدالله بن سليمان، وكان من أول مشروعات مدِّ أنابيب الشرب في نجد.
وكم كان أبوحمد، رحمه الله، أعجوبة عملاً وتقى. ولا أزال أذكر أننا عندما كنا نمرُّ قرب منزله قبل أذان الفجر بنصف ساعة ذاهبين على ظهور الحمير الى الوادي كنا نسمعه يتهجد ويتلو القرآن الكريم تلاوة الخاشع لله الواحد الأحد.
|