مطالعة متأنية في تاريخ البشرية الطويل المصبوغ بلون الدم، منذ بدأ الإنسان تحت إلحاح غريزة البقاء بالتكتل في مجموعات تضم أفراداً من بني جنسه، محاولاً الاحتفاظ بحياته وحماية نفسه إزاء تهديد مواطنيه سكان الغابة البدائية التي كانت المنزل الأول للإنسان ومسرح محاولاته البكر في الطريق الشاقة نحو امتلاك ناحية القوة والتفوق المطلق على بقية الكائنات فوق الأرض..
مطالعة متأنية من النوع الذي ذكرنا، يمكنها أن تقودنا مباشرة إلى حقيقة تكاد ترقى إلى مستوى المسلمة، مفادها أن جل إن لم نقل كل ما تسجله صفحات التاريخ السياسي من حروب ومآس وكوارث كبرى كان سببها هيمنة واقع مختل على خارطة العالم سواء على مستوى الأفراد داخل نطاق الوحدات الاجتماعية الصغرى أو على مستوى الوحدات السياسية نفسها في إطار الأسرة العالمية، فالإحساس بالظلم والقهر المترتب عن وجود الفقر والعوز والحاجة إلى جانب الغنى الفاحش دفع الإنسان كفرد أو كعضو في تنظيم اجتماعي سياسي مثل الدولة أو القبيلة إلى إشعال الحروب ضد من يعتبرهم معتدين على حقه الطبيعي في التمتع بمستوى معيشي ينسجم وكرامته الإنسانية وكثيراً ما تطرف هذا الاندفاع المشروع في حماية الإنسان لحقوقه ومصالحه المادية إلى درجة مرعبة أفضت إلى كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معان بشعة.. ولكي لا نوغل كثيراً في الزمن لاختيار الأمثلة الداعمة لهذه الحقيقة- المسلمة فإن أقرب نموذج يرد في هذا الصدد، هو الحرب العالمية الثانية والأسباب التي أسهمت في إشعال فتيلها.. فبغض النظر عن السبب الظاهري المباشر الذي عرف على أنه العامل الأوحد في قيام هذه الحرب، والمتجسد في مسألة الخلاف الذي تفجر في منطقة البلقان، فإن وقائع التاريخ ومنطقة المجرد تؤكد أنه ما كان لقادة ألمانيا وعلى رأسهم«أودلف هتلر» أن يتمكنوا من السيطرة على عقل الشعب الالماني وتعبئته نفسياً وذهنياً ومادياً، لبناء تلك الترسانة الحربية المهولة التي دخلت بها ألمانيا الحرب ضد العالم لولا حالة الإحساس بالقهر والظلم التي عاشها الشعب ألالماني، جراء القيود الظالمة والمهينة التي وضعتها الدول الاوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وألزمت المانيا بالرضوخ لها من خلال اتفاقية «فرساي» الشهيرة التي كانت أحد بنودها في الجانب الاقتصادي يوجب على دولة ألمانيا التنازل عما يقرب من «40%» من دخلها القومي الأمر الذي أثر بالضرورة على مستوى اقتصاد الدولة وانعكس بالتالي سلبياً على حياة المواطن العادي..
بيد أنه وكما نعرف فإن التاريخ يكتبه الأقوياء المنتصرون لذلك فإن الأسباب الحقيقة التي صنعت تلك المأساة لم يتم التطرق لها إلا من قبل كتاب ومؤرخين حاولوا التغريد خارج السرب ولأنهم قلة فإن تغريدهم لم يسمعه إلا الباحثون عن صوت الحقيقة وهم أيضاً قلة ولكن التاريخ في الواقع ليس مجرد كتاب نفتحه ونتسلى بقراءته ونمتع أذهاننا بكشف مكان الغموض والتزوير فيه بل إنه خلاصة التجربة الإنسانية لتجنب الأخطاء والانحرافات التي أفضت في الماضي إلى كل تلك المآسي الفاجعة التي ذهبت بملايين الارواح البريئة واخرت مسيرة الحضارة والتقدم الإنساني.. وعلى الغرب وأمريكا بالذات أن تعي وتفهم أن سياسة اللعب بالنار التي تتسلى بممارستها الان عبر تصعيد لهجة الاستكبار والتعالي ضد الشعوب الصغيرة من خلال التهديد بالتدخل العسكري في الشؤون الداخلية كما حدث ومازال يحدث في العراق، يمكن ان تمهد الارض كأحسن ما يكون التمهيد لانفجار كارثة كونية بعد ان يكون الكيل قد طفح بالدول المتضررة من هذه السياسة الرعناء.
إبراهيم المغبوب
|