* القاهرة مكتب الجزيرة عتمان أنور:
على عكس ما كانت تنتظره الإدارة الأمريكية جاء تقريرا بليكس والبرادعي مخيبين لآمالها ولم يدفعا باتخاذ خطوة تجاه الحرب وحسب وصف العديد من المراقبين في العالم فإنهما مالا للحل السلمي عن طريق استمرار عمل المفتشين لفترة أخرى بل أكد التقريران على تعميق هوة الخلافات داخل مجلس الأمن بين الرافضين للحرب وخصوصاً المانيا وفرنسا وروسيا والصين وبين التحالف الانجلوسكسوني بل لقد تعززت مواقف الدول الرافضة للحرب بالتظاهرات التي عمت العواصم العالمية. كما اظهر التقريران مدى هشاشة وخواء الأمم المتحدة وهيمنة امريكا عليها.
ردود الافعال التي احدثها تقريرا بليكس والبرادعي طرحت معها العديد من التساؤلات خصوصاً مع الخلافات التي شهدتها اروقة مجلس الأمن. فإلى أي مدى تؤدي هذه الخلافات لمنع نشوب الحرب على العراق، وإلى أي مدى تصمد المواقف الالمانية والفرنسية والروسية والصينية أمام الاصرار الأمريكي لتوجيه ضربة عسكرية للعراق وخصوصاً ان البرادعي أكد في تقريره انه لا توجد ادلة تثبت ان العراق لديه انشطة نووية. كما أكد بليكس في تقريره ان لجنة انموفيك لم تحصل على شيء عدا بعض الرؤوس الكيماوية، بل شكك بليكس في الأدلة التي قدمها كولن باول وزير الخارجية الأمريكي وصور الاقمار الصناعية التي قدمها في خطابه الاخير.
«الجزيرة» التقت نخبة من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين لتقييم تقريري بليكس والبرادعي وردود الافعال والخلافات الناشبة في مجلس الأمن وتأثيراتها على الازمة العراقية والعلاقة مع امريكا.
حقائق
أكد الدكتور فوزي حماد رئيس هيئة الطاقة الذرية الأسبق ان تقريري هانز بليكس والدكتور محمد البرادعي اتصفا بمصداقية علمية كبيرة واعتمدا على حقائق ومعلومات وليس على مجرد تكهنات واقاويل فمن المعروف علميا انه لا يمكن للعراق بعد التدمير الذي لحق به في حرب الخليج الماضية وعمليات التفتيش التي تعرض لها في السابق اعادة احياء برنامجه النووي مرة اخرى بسهولة فهو يحتاج إلى امكانيات كبيرة ليس فقط في الكفاءات العلمية ولكن في الامكانيات والادوات ايضا وهذه تحتاج تسهيلات واسعة ولا تكفي معها عمليات التهريب وبعيدا عن هذه النقطة نجد ان المثار هو مجموعة من انابيب الالومنيوم وان كل الدراسات في الوكالة الدولية للطاقة النووية تشير إلى ان هذه الانابيب ليس لها علاقة بإثراء اليورانيوم.
واتفق حماد مع ما ذكره هانز بليكس من تشكك في تفسير الولايات المتحدة للصور الملتقطة بالأقمار الاصطناعية والتي عرضها وزير الخارجية الأمريكي كولن باول على أنها أدلة على أنشطة مشبوهة في موقع للتسلح العراقي، حيث اعتبر بليكس الأمر متعلقا بنشاط روتيني وليس عملية نقل ذخائر محظورة مع اقتراب عملية تفتيش محتملة.
واضاف حماد ان التصور الامريكي للنشاط النووي العراقي ما يزال يعيش في مناخ اليونسكوم وهي مرحلة انتهت ونحن الآن في القرار 1441 الذي يشهد تعاون العراق بشكل كبير في كافة نواحي إعداد البنية التحتية لأنظمة التفتيش وفتح كل المواقع، كما أكد بليكس والبرادعي وإذا كان باول صادقا في كلمته عندما قال: (اننا عندما كتبنا القرار 1441 لم نكتبه لكي نذهب إلى الحرب، ولكن كتبناه كي نحافظ على السلام) فإن اعطاء المفتشين فترة اخرى اضافية سيكون من اجل السلام، ولكن الحديث الآن يدور عن عدة ايام، واقول: إن عدة اشهر سوف تكون اجدى للسلام، وخصوصاً ان العراقيين أبدوا استعدادهم لمزيد من التعاون، وقدموا مؤخرا مزيدا من الوثائق واصدروا مرسوما يحظر اسلحة الدمار الشامل وهم يعملون في مناخ مفتوح بشكل كبير.
وأكد الدكتور حماد ان العراق لا يمثل تهديدا وقال إن الكلام الحقيقي عن اسلحة الدمار الشامل يجب ان يوجه إلى كوريا الشمالية، التي انهت الاشراف الدولي وطردت المفتشين.. ولديها كميات وبرنامج لاثراء وانتاج اليورانيوم (235)، عالي الاثراء، خارج الاشراف الدولي وخارج معاهدة منع الانتشار التي انسحبت منها كوريا.
ارتياح كبير
ومن جهته يرى الخبير الاستراتيجي اللواء احمد عبدالحليم ان تقريري بليكس والبرادعي قد استقبلهما العالم بارتياح كبير عدا امريكا وهما قد زادا من مساحة الامل في عدم نشوب حرب وانهما انتصار للحل الدبلوماسي وهذا ما يتوافق مع التحركات والمساعي العربية الامر الذي يفرض ضرورة استثمار الفرصة وبذل المزيد من الجهود للحيلولة دون وقوع حرب ويأتي في هذا السياق القمة العربية الطارئة التي دعت إليها مصر. وحول ما أشار إليه تقرير بليكس من وجود صواريخ الصمود متجاوزة المدى قال عبدالحليم: إن العراق بالتأكيد لديه صواريخ، ولكن لا يعني ابدا ان صاروخا لدى دولة لا يتعدى مداه المائة وخمسين كيلومترا المقررة دوليا ان يكون ذلك خروجا على القوانين الدولية.
ورغم ما قاله بليكس من تجاوز المدى إلا ان هذا لا يعني الحرب على العراق.. وعن قيام العراقيين باخفاء الاسلحة قبل لحظات من وصول المفتشين قال «ألم يكن الأمريكيون يستطيعون اخبار المفتشين في نفس وقت وقوع هذه الاحداث؟!».
واضاف ان الاسلحة البيولوجية يمكن انتاجها في اماكن مختلفة، سواء أكانت متنقلة أم ثابتة، موضحا انه يمكن انتاج هذه الاسلحة في المعامل المدرسية او معامل التحاليل الطبية، ولكن السؤال والكلام للواء عبدالحليم هو كيف يمكن استخدام هذه الاسلحة، وكيف يمكن توصيلها إلى اهدافها؟، وأكد أنه لم يكتشف اي جهاز تفتيش وجود اسلحة محرمة لديه، إلى جانب ان العراق ادرك ان امتلاكه مثل هذه الاسلحة هو امر يضره ولا ينفعه اطلاقا، مشيرا إلى ان العراق قام بتحديث نفسه، صنع تقدما علميا ليس بالهين في فترة ما قبل الحصار، وتساءل هل يمكن للعراق ان يقوم باخفاء 500 طن من الاسلحة مؤكدا ان حديث باول ايضا عن برنامج نووي عراقي يخالف تقارير البرادعي وبليكس في هذا الشأن، ويؤكد التلفيق الأمريكي ويكشف نواياها العدوانية تجاه العراق.
أما عن تأثير المواقف الدولية فيقول اللواء طلعت مسلم: ان الموقف الأوروبي وخصوصاً الفرنسي والالماني والروسي والصيني موقف جدير بالاحترام ويجب العمل على تدعيمه، فقد أكد وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان في كلمته أمام مجلس الأمن إلى عدم وجود مبرر لاستخدام القوة ضد العراق في الوقت الراهن.
واعتبر أن تقريري بليكس ومحمد البرادعي يظهران أن عمليات التفتيش تعطي نتائج، معتبرا أن الحرب هي الخيار الأخير فقط وأنه يجب منح عمليات التفتيش مزيدا من الوقت. ويلقى هذا الموقف دعما كبيرا من كافة الدول الرافضة للحرب حيث تعد فرنسا في مقدمة الدول المتميزة عن السياسة الأمريكية إزاء العراق، ويمكننا القول انها تستمد موقفها من سياستها العربية التي دافع عنها الراحل شارل ديغول بعد العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في يونيو 67، وهي تنخرط ضمن سياسة الاستقلال الوطني في مواجهة الهيمنة الأمريكية، ودون الرجوع إلى كافة المراحل التي قطعتها هذه السياسة.
ويرى د. مصطفى علوي أستاذ العلوم السياسة بجامعة القاهرة انه يمكن القول إن السياسة الفرنسية تنخرط اليوم ضمن تصور شامل للعلاقات الدولية، يرمي إلى إعطاء الأولوية للطرق السلمية من أجل دفع الدول إلى الالتزام بالشرعية الدولية، وهي بالتالي تعتبر أن الوسائل الحربية لا يمكن اللجوء إليها إلا في آخر المطاف كشر لابد منه، إذا تبين بوضوح أن الطرق الدبلوماسية قد تم استنفادها، لهذا تقف أمام الإصرار الأمريكي على العدوان على العراق، وهي ترفض بذلك استئثار الولايات المتحدة بإدارة أزمة تعتبر من اختصاص الأمم المتحدة عن طريق مجلس الأمن ولهذا يجب استثمار هذا الموقف من جانب العرب واللعب على التوازنات الدولية، ففرنسا كقوة كبرى وإن كانت غير عظمى ليست في العمق ضد عمل عسكري ضد نظام صدام حسين، لكنها يهمها شيئان، هما أولاً: ضرورة مراقبة نزع السلاح العراقي وهو ما تقوم به هيئة المفتشين بقيادة هانز بليكس والوكالة الدولية للطاقة الذرية وأخيرا مجلس الأمن، على ضوء هذه التقارير التي ينبغي أن تتضمن حججا دامغة على مخالفة العراق لمقتضيات القرار 1441. ثانياً: إن مشاركة فرنسا أو عدم مشاركتها المادية في عمل عسكري تبقى مرتبطة بقرار مجلس الأمن.
من ناحية اخرى تدرك روسيا جيدا أنها فقدت منذ انهيار المعسكر الاشتراكي الكثير من مقومات القوة التي كانت تملكها، والتي كانت تجعلها أساس التوازن القائم على القطبية الثنائية، فهي غدت قوة عادية تتخبط في كثير من مشاكل الانتقال نحو نظام السوق، ومنذ وصول الرئيس بوتين تدعم التفاهم الأمريكي الروسي، فهذه الأخيرة محتاجة بشكل كبير للغرب، لإنجاح الإصلاحات التي تريد القيام بها لتتحول إلى قوة اقتصادية ومدنية، وقد ساعد الموقف المساند لأمريكا إبان هجوم 11 سبتمبر على تدعيم العلاقات الأمريكية الروسية، وقد لعبت روسيا دورا إيجابيا في التحرك الأمريكي إزاء أفغانستان، وبالضبط ضد نظام طالبان، وتحتاج روسيا إلى تواطؤ الولايات المتحدة لمواجهة الحركات الاستقلالية، وفي مقدمتها الشيشان، غير ان روسيا تتخوف من مستقبل مصالحها النفطية والضمانات المقدمة إليها في حالة سقوط نظام صدام حسين وتتعامل مع المعارضة التي قد لا تنظر بعين الارتياح إلى الدور الروسي في الدفاع عن النظام السابق. اما من ناحية المانيا فقد تميز المستشار الألماني شرودر حتى الساعة بالدفاع عن موقف يرفض دق طبول الحرب والعنف ضد العراق. لقد سعت فرنسا حتى الساعة إلى إسماع صوتها المتميز بالاتكاء على الحليف الألماني، في ظل عجز أوروبي واضح على بلورة موقف منسجم بسبب التعارضات الكبيرة مع الجناح المساند للحرب، والذي تقوده بريطانيا الحليف الدائم لأمريكا مهما كانت سلوكياتها الدولية وهو موقف متميز في السياسة الألمانية، لا يمكن فهمه إلا من خلال ربطه إلى حد ما بالنفوذ الذي يمارسه الحليف الحكومي، المتمثل في حركة الخضر التي يعتبر من بين قيادييها النافذين وزير الخارجية يوشكا فيشر، وتقليديا ولأسباب مبدئية إنسانية وبيئية يرفض هؤلاء اللجوء إلى القوة في تدبير المشكلات العالمية، وبسبب هذا الموقف المنتقد للسلوك الأمريكي، فقد شهدت العلاقات الأمريكية الألمانية فتورا واضحا. هذه المواقف رغم ارتباطاتها المعقدة بالولايات المتحدة الامريكية كما يراها العديد من المراقبين والمحللين إلا أنه يجب استثمارها لصالحنا.
|