Friday 21st february,2003 11103العدد الجمعة 20 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

السياحة.. صناعة ثقافية أولاً (3) السياحة.. صناعة ثقافية أولاً (3)
عبدالله الماجد

لايزال الحديث موصولاً عن أهمية «المكون» أو «الناتج» الثقافي في تراث الأمم، كأحد المصادر المهمة في تكوين صناعة السياحة. وحتى يتمثل القارئ هذا الموضوع، فإن عليه ان يتواصل مع الموضوعين السابقين المنشورين قبل ان يستهل قراءة هذا الموضوع.
وكنت قد أوردت وصفاً لمدينة مهمة كانت قائمة في يوم من الأيام هي «الهيصميّة» فأين هي هذه المدينة العظيمة، التي كانت مزدهرة في فترة من التاريخ، ربما كانت متزامنة مع الفترة، التي نشأت فيها مآثر قبيلتي طسم وجديس، التي ذاع صيتها في فترة ماقبل الإسلام، في منطقة اليمامة (الخرج) فيما يقارب القرن الخامس أو الرابع قبل التاريخ الميلادي، ومنهم «زرقاء اليمامة» التي ذاع صيتها في أدبيات التاريخ العربي قبل الإسلام، وكانت مادة لمعادل موضوعي فني استلهمه شعراء قدماء ومعاصرون. الهيصميّة، هذه المدينة التي كانت مركزاً تجارياً للقاصدين من أنحاء الجزيرة العربية تبتلعها الرمال التي طمست معالمها مع تقادم الزمن وهي تقع في الطريق بين مدينة «ليلى» عاصمة اقليم الافلاج وبلدة «السيح» التي ذكرها الهمداني باسم قرن.
وسوق الفلج (الأفلاج) كما وصفها الهمداني - هي سوق تجارية حقيقية بما تعنيه هذه الصفة من مدلول تجاري، على مستوى الجزيرة العربية فقوافل اليمن تحمل إلى هذه السوق بضائعها التي كان أهمها «الأديم» (الجلود) ثم تحمل إلى الأحساء -على نحو ما أشار الرحالة الفارسي ناصر خسرو- وحينما تعود هذه القوافل لليمن فإنها تحمل معها شيئاً من بضائع سوق الفلج. وقد وصف هذه السوق كاتب آخر معاصر للهمداني هو الأصفهاني في كتابه بلاد العرب، وصفها بأنها مدينة عظيمة وكان من بين المراكز التجارية في بلاد العرب (الجرعاء) بالأحساء التي تعتبر من أشهر الأسواق التجارية في المنطقة التي تعرف الآن بمنطقة الشرق الأوسط وكانت مزدهرة ومعروفة منذ العهدين اليوناني والروماني.
وقد وصفها اليونانيون بأنها كانت في أرض سبخة وان سورها وأبراجها كانت مبنية من صخور الملح وان محيطها يبلغ خمسة أميال وكانت مركزاً من المراكز التجارية الهامة وسوقاً من الأسواق المهمة في بلاد العرب وكانت إبان ازدهارها من اجمل عواصم هذه المنطقة وذكرها المؤرخ اليوناني استرابون Strapo المتوفى سنة 58 ق.م. وقال إن أهلها يعتبرون من أغنى العرب، يقتنون الرياش الفاخرة ويكثرون من آنية الذهب والفضة ويزينون منازلهم بالعاج والفضة والحجارة الكريمة ويجملون سقوف أبنيتهم وأبوابها بالذهب والأحجار النفيسة كما ذكرها من جغرافيي العرب الهمداني. وللعلامة حمد الجاسر مادة غنية عن الجرعاء في معجم المنطقة الشرقية في معجم المنطقة الشرقية.
ولأهمية هذه الأسواق في الجزيرة العربية في الموروث الثقافي العربي ولشهرتها التي وصلت إلى خارج الجزيرة كسوق «عكاظ» وغيره فإنني أعتقد انها ستكون ضمن أولويات خطط الهيئة العليا للسياحة واقترح ان يتم احياؤها في أماكنها الأصلية حيث كانت تقع وأتذكر ان توجهاً نحو إحياء سوق عكاظ منذ سنوات قد بدأ التفكير فيه وعقد لذلك مؤتمر ولكن لا أعلم إلى أي مدى وصلت تلك الجهود ويمكن الاستفادة من تجارب الدول التي سعت إلى إحياء مدنها القديمة التي كانت تحتفظ بتراث معين تشتهر به تلك البلدان ويحضرني في هذا المجال مافعلته هولندا التي تشتهر بانتاج الأجبان فعلى مقربة من امستردام هناك قرية اشتهرت بانتاج الجبن منذ سبعمائة عام أعيد بناؤها وفق ما كانت تعيش عليه في تلك الفترة بكل التفاصيل الدقيقة من حياة الناس، سمات الناس ولباسهم حتى الطيور الأليفة والدواجن بالإضافة إلى الأدوات التي كانت تستعمل في عمل الجبن وبيوتهم وكانت الحكومة تدفع للناس المقيمين في تلك القرية وفق النسق القديم مرتبات عوضاً عن تخليهم عن حياتهم العصرية الآن وعودتهم إلى ذلك العصر القديم.
كما انه لو تم ربط هذه الأسواق بالطرق القديمة نفسها واستعملت الجمال في إقامة رحلات سياحية بين تلك الأسواق لأصبح هذا أحد المكونات المهمة في إقامة أيام وليالٍ سياحية وفق ماتم التعارف عليه برحلات «السفاري» الصحراوية ولإعطاء القارئ نموذجاً من تلك الطرق التجارية القديمة فإن النموذج الجاهز في ذهني -بحكم التخصص والاهتمام الشخصي- شبكة الطرق القديمة التي كانت تمر بالأفلاج وهي:
من الفلج إلى اليمامة
ويمر هذا الطريق بأودية الأفلاج، أكمة (الأحمر) والغيل والصدارة ثم غلغل والثجة، والنضج ثم وادي المراء ثم برك، وبريك وطريق آخر يمر بدلاميس، ثم نسله ثم الخرج.
من اليمامة - الفلج - إلى نجران
وهذا الطريق يذكره ابن خرداذبه على هذا النحو: من اليمامة إلى الخرج ثم إلى نبعه ثم إلى المجازه ثم إلى المعدن ثم الشقق ثم إلى الثورة حتى يصل الفلج ومنها إلى الصفا ثم إلى بئر الآبار، حتى نجران.
الجرعاء -الفلج - إلى مأرب
يبدأ هذا الطريق من الجرعاء بالقرب من ميناء العقير على الخليج العربي، ويمر بالأحساء ثم إلى اليمامة فالفلج فالعقيق، ثم نجران، ومنها إلى مأرب.
ويستفاد من المذكرات القليلة التي سجلها الرحالة الفارسي «ناصر خسرو» وهو الذي أقام في إقليم الأفلاج، خلال القرن الخامس الهجري (444هـ) أربعة أشهر ان بلدان هذا الإقليم قد لحق بها الخراب وتقلص عمرانها إلى نصف فرسخ في ميل عرضا (12 ألف كيلومتر تقريباً) وذكر له أهلها أنهم أصحاب الرسيم (ربما أصحاب الرس كما أشار العلامة حمد الجاسر في تعليقه على هذا النص: «لعلها من أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن وهذا مانص عليه كثير من المفسرين وبعض المؤرخين») وفيما ذكره هذا الرحالة يبدو تحامله وعدم تجرده محكوماً بعصبيته المذهبية في ذلك الوقت وقد أشار إلى أنها ناحية كبيرة وغنية بالنخيل وذكر ان غزواً من العرب مر بالفلج (الأفلاج) وطلب من أهلها خمسمائة مَنٍ من التمر وانهم لم يقبلوا بذلك الطلب مما جر عليهم حرباً قتل فيها عشرة رجال منهم وقلعت ألف نخلة مما يشير إلى وفرة النخيل وان هناك آلاف النخيل التي عجز الغزو عن قطعها، ومن المعلومات التي ذكرها عن تمور هذا الإقليم نوع أسماه «ميدون» تزن الواحدة منه عشرة دراهم ولايزيد وزن النوى به عن دانق ونصف ويقال انه لايفسد ولو بقي عشرين عاما ويتفق ما ذكره خسرو في هذا مع ما ذكره قبله «الهمداني» عن تمور الأفلاج وقد عدد أصنافها وذكر هذا النوع الذي أشار إليه «خسرو» وأشار إلى ان اسمه «الصفري» وقال عنه: «سيد التمور» ذلك لأنه يغرق في البحر فيماث سائر التمران ما خلا الصفري، ولايزال هذا النوع من التمور يعرف حتى الآن باسمه هذا لكن أهم ما أشار إليه خسرو هو انه حدد الوقت الذي تقلصت فيه عظمته وأبهته تلك التي يشير إليها الهمداني والخراب الذي عم ذلك الإقليم.
ربما يكون في هذا الاستطراد «حشو» واقحام لتفاصيل تخرج الموضوع عن هدفه، لكنني أهدف من وراء ذلك إلى جذب القارئ ليعيش زخماً تاريخياً يفضي به إلى نخيل المكون التراثي بخلفيته التاريخية والاجتماعية وصولا إلى أهمية استخدامه كأحد العناصر الثقافية للمكون السياحي.
وإذا كنت قد أشرت في تلك الاستطرادات إلى ما سجله كتاب البلدان العرب والمسلمون عن هذا الإقليم وطرحته كنموذج لما يمكن ان يتجه إليه الاهتمام لابرازه ليكون مصدراً للمكون السياحي فإني اقتصر على ما سجله القدماء وهو أمر مهم يساعد في إجراءات المسح والكشف الأثري، بينما كان اتجاه الكتاب والمؤلفين المعاصرين إلى رصد المتبقي من المشاهد القديمة للاستيطان البشري في تلك المناطق ووصف الآثار المتبقية لفترات قريبة في تاريخها مما لايزال ماثلاً وصامداً أمام عوادي الزمن وهو أمر هام يحث على القيام بترميم وحماية تلك المشاهد الأثرية قبل ان تصبح أثراً بعد عين -كما يقال- فبينما يتجه البحث والتنقيب عن الآثار الموغلة في القدم بهدف تأصيل فترات تاريخية والكشف عما تبقى من كنوز أثرية هامة، فإن حماية المتبقي من الآثار التي لاتزال قائمة أمر في غاية الأهمية لايقل عن جهود الكشف والتنقيب وللأسف فإن الجهود المبذولة في ذلك متواضعة جداً بل إنها أهملت لسنوات طويلة لأسباب يطول الحديث فيها ومما لا يستحب الخوض فيه الآن إذا كانت النوايا -الآن- قد توجهت إلى تنشيط هذا المجال.
ومن الجهود العلمية الريادية المعاصرة تلك الرحلة التي قام بها الرحالة «فيلبي» (عبدالله فيلبي) وهي أول ارتياد لرحالة غربي (في حينه) لتلك المنطقة حيث قام برحلته تلك في عام 1918م -بصرف النظر عن ادعاء سلفه «بالجريف» انه قام بزيارة المنطقة في عام 1862م وهو ادعاء أثبت عدم صحته كثير من الباحثين ومنهم فيلبي. سجل «فيلبي» مشاهداته تلك في كتابه «قلب الجزيرة العربية». لقد تحدث من مظاهر الاستيطان البشري في هذا الاقليم (الافلاج) منذ العصور القديمة حيث كان يشكل منطقة جذب للإنسان لوفرة المياه فيه ولقربه من مناطق الانتشار البشري في مستوطناته الأخرى المشهورة في التاريخ القديم والتي تشير إليها شبكة الطرق القديمة المشار إليها في هذا الموضوع ،كما تحدث «فيلبي» عن هذا الاقليم فإنه تحدث عن إقليم «الخرج» و«وادي الدواسر» فضلا عن كتبه الأخرى المعروفة التي تتابعت بعد ذلك مما هو معروف للقارئ.
وكما رصد فيلبي المشاهد الأثرية في إقليم الأفلاج التي لايزال بعضها قائماً حتى الآن فإن أحد أبناء هذا الإقليم «عبدالله بن عبدالعزيز آل مفلح» -رحمه الله- سار على خطى سلفه «الهمداني» فمضى يسجل الشواهد القديمة والمعاصرة والوقائع التاريخية والأنماط الاجتماعية مما يعتبر أثراً مهماً -على بساطته وعفويته- وعلى نحو منفرد وسابقة في تأليف الكتب -كما أعلم- أخذ أبناء أخيه زمام المبادرة وسجلوا ما رواه عمهم- على الطريقة المأثورة في تأليف بعض الكتب العربية القديمة - وأصدروه في كتاب مهم هو أحد الكتب الرائدة عن إقليم الأفلاج راصداً التحولات التاريخية والاجتماعية وعمران القرى، بل والأحياء والقصور ودلالات تلك الأسماء واسبابها.
وكنموذج لما رواه هذا العلامة الحافظ عن أحد القصور أو القلاع التي لاتزال بعض أجزاء منها باقية حتى الآن تنتظر جهوداً لترميمها وإحيائها قصر «سلمى» الذين إنشأه أحد مشايخ قبيلة الجميلات المعروفة، حماد الجميلي في القرن العاشر الهجري في بلدة البديع استدعي هذا النص كما أملاه وورد في كتابه (ص69).
«قصر كبير كثير الأسوار المتكررة حماية لساكنيه سليمة جدره إلى اليوم ويقع في قرية البديع الشمالي وقد أخطأ من جعله هو حصن العقيدة الذي ذكره الهمداني أما عرض حائطه فأربعة امتار وإذا اعتلى قل عرضه وارتفاعه عشرة أمتار أو تزيد والقلعة مصممة على شكل سداسي كل زاوية لها برج للمراقبة والدفاع ويحيط منتصف القرن العاشر الهجري حماية لنفسه وقبيلته من هجوم شريف مكة عليه وقصة بنائه ان حمادا الجميلي كان يرسل إتاوة سنوية لشريف مكة ثم عنّ له ان يتوقف عنها سنة من السنوات لما رأى على طريقه من ان ضباً حمى نفسه من خطر السيل لكيلا يدخل جحره فرجع حماد إلى البديع وبنى القصر وخندق ما حوله وملأه بالماء ولما علم الشريف بذلك أرسل جيشا لمحاربته وجاء الجيش ومكث عند القصر أربعين يوما ولم يستطع اقتحامه ولما رجع القائد للشريف قال له: وجدنا سلمى أسفلها في الماء وأعلاها في السماء وفي عام 989هـ قدم الشريف إلى الخرج للقضاء على فتنة هناك وبعده توجه للبديع لمقابلة حماد الجميلي بنفسه وتمكن من القضاء على ثورته وإرغامه على دفع الإتاوة ثم توجه الشريف للحجاز عن طريق الهدار لأنه منفذ من جبال طويق، ولم يكن يعلم انه سيقابل رجال الجميلات أمامه ولكنه قابلهم وهم في رؤوس الجبال وحصل لقاء انتهى بقتل رجال من الطرفين» (ص69).
أوردت هذا النص لما فيه من دلالات فهو يشير إلى أثر هام يحتاج إلى إعادة ترميم وضمه إلى المحميات الأثرية التي تشرف عليها الدولة كما ان قصة بنائه تشير إلى واحدة من أهم الصفات التي ينطوي عليها عقل العربي البدوي وهي سرعة البديهة والذكاء الفطري وتعلمه مما حوله في الصحراء، على ماتحويه من طرافة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved