يمر العالم الإسلامي اليوم بمنعطف خطير في مسيرته التاريخية، وأيامه التي يعيشها حبلى بالكثير من المآسي التي تحملها تيارات التغيير الجذرية التي يعد لها الغرب عدته، ويحشد لها جنوده وقواته، ويسخر لها عقول أبنائه وقياداته السياسية والعسكرية والإعلامية. والظروف التي تهيأت لهذه القوى استثمرت الأحداث الشهيرة التي عصفت بالولايات المتحدة وجعلت منها فرصة سانحة لتمرير سياساتها واستراتيجياتها في المنطقة، إن لم تكن هذه الأحداث أصلاً جزءاً ذكياً من بنود هذه السياسات وتلك الاستراتيجيات التي نفذت بدقة لتكون بوابة تنفذ من خلالها رياح التغيير إلى البيت الإسلامي لتعصف به وتزلزل أركانه.
نعم.. كانت الأحداث الشهيرة فرصة سانحة استثمرها تحالف الصهيونية واليمين المسيحي المتطرف في الإدارات السياسية الغربية وبخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا لتطبيق الرؤى التي أعدها المعنيون بالتفكير الاستراتيجي في كلا الدولتين والتي تهدف إلى إحكام السيطرة على المنطقة، ونهب ثرواتها وتعزيز مصالحها فيها والدفاع عنها، ونشر القيم الثقافية التي تعكس الأنموذج الغربي في الحياة.
وفيما يلي نعرض لشواهد هذا الفكر الاستراتيجي ودلالات تطبيقه في المنطقة:
1- يقول (روبرت كوبر) السياسي البريطاني المحنك الذي يعمل مستشاراً لرئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) ويؤيده في ذلك السياسي الأمريكي اليهودي المخضرم (هنري كيسنجر) إنه لابد من الآن فصاعداً ان تتعامل الدول العظمى بمبدأ (الكيل بمكيالين) مع الدول المتخلفة التي تحكمها شريعة الغاب ولاتزال ترزح تحت وطأة عادات وتقاليد القرن السابع عشر، ويقصد بالدول المتخلفة الدول العربية الإسلامية على وجه الخصوص، وأن من حق الدولة العظمى ان تلجأ إلى (الحرب الوقائية) التي يحرمها القانون الدولي في سبيل الحفاظ على مصالحها، ويعني ذلك ان من حق بريطانيا والولايات المتحدة ان تبادرا بشن حرب شاملة على أية دولة أخرى متى ما رأتا أن هذه الدولة تمثل تهديداً لمصالحهما الاستراتيجية.
وما من شك في أن المتتبع لسيناريو الأحداث يلحظ إصرار هاتين الدولتين على المبادأة بضرب العراق حتى إن لم تكن الحرب مسنودة بقرارات من مجلس الأمن الدولي.
2- ان الحملة المزعومة على الإرهاب التي أعقبت الأحداث التي عصفت بمدينتي واشنطن ونيويورك في سبتمبر عام 2001م اتخذت منحى آخر صرف الاهتمام عن (مطاردة الإرهاب) إلى (نزع أسلحة العراق) وهو تغير جذري يفترض ان يطال الدول الأخرى أيضاً، ولكن هذه الدول لم تدخل في السيناريو المعد سلفاً.
وفي ذلك يقول أحد أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد الأمريكية في حديث تليفزيوني أذيع في يوم 6 ذي الحجة 1423هـ الموافق 7 فبراير 2003م «إنه على الرغم من تصريح كوريا الشمالية بامتلاكها أسلحة نووية إلا ان الولايات المتحدة لاتنوي إعلان الحرب عليها لنزع هذه الأسلحة وتجريدها منها، لأن ذلك لايمثل مصلحة حقيقية لها، والمفسدة في هذا الفعل راجحة على المصلحة أما في العراق فالوضع مختلف تماماً لأن المصلحة الأمريكية تدور حول نفط العراق، والسيطرة عليه، وتكثيف الوجود الأمريكي في المنطقة الذي يعزز أقدام الامبراطورية الأمريكية، ويسهم في إضعاف الدعم العربي والإسلامي للانتفاضة الفلسطينية.
وعلى الرغم من تصريح وزير الدفاع رامسفيلد أمام أعضاء مجلس النواب في الكونجرس الأمريكي في يوم الأربعاء 5 ذي الحجة 1423هـ الموافق 6 فبراير 2003 من ان الولايات المتحدة قادرة على خوض حربين مع كوريا الشمالية والعراق في آن واحد، إلا ان هذا القول لايمثل حقيقة مسلماً بها في الرؤية الاستراتيجية، وهو ما يمكن ان يؤخذ من باب (المؤثرات الصوتية) المصاحبة للمشهد التمثيلي.
3- إن الركض السياسي البريطاني الحثيث وراء سياسة الولايات المتحدة في المنطقة وتأييده الملحوظ لها في حربها مع أفغانستان والقضاء على حكومة طالبان ثم الآن في حربها السياسية والإعلامية وربما العسكرية تجاه العراق ليس غباء ولا إمعية بلهاء، بل هو ثمرة من ثمار التوافق في الرؤية الاستراتيجية تجاه المنطقة والتعاون على تنفيذها.
4- ذكرت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي في نشرة لوزارة الخارجية الأمريكية صدرت عام 2000 ان القيم الأمريكية السياسية والثقافية هي من أولويات إدارة الرئيس الجديد (جورج بوش الابن) التي تسعى إلى نشرها في منطقة الشرق الأوسط. والحملة الإعلامية الشاملة التي واجهتها المملكة العربية السعودية شاهد صدق على تنفيذ هذه الرؤية، إذ شملت القيادات السياسية، والمؤسسات الدينية، ومناهج التعليم، ومؤسسات العمل الخيري التطوعي، وغيرها.
هذه بعض دلائل ومؤشرات الاستراتيجية الأمريكية والبريطانية في المنطقة، وهي - وغيرها كثير مما لم يذكر تشي بنية سابقة ومبيتة ستعقبها أعمال تصدقها لإحداث تغييرات جذرية في المنطقة تحقق مصالح معد لها سلفاً، ومثل هذه التغييرات الجوهرية لايمكن فهمها إلا من خلال الاستقراء الموضوعي للأحداث وربطها جميعاً لاستنباط ما ستقود إليه من نتائج، وهو ما لا يمكن فهمه للناظر إلى كل حدث بمفرده.
وفي خضم تداعيات هذا السيناريو المرعب والتخطيط الاستراتيجي المخيف، نسجل بعض الوقفات التي تنبغي مراعاتها درءاً للخطر، وتقليلاً من الشر، وهي بمثابة أولويات نرتبها في فقه «التدافع الحضاري»، ومن هذه الوقفات:
أولاً: إعادة ترتيب البيت من الداخل من خلال إصلاح الذات على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول باعتبار الهجمة تطال الأمة جميعها، والإعصار -إن هب- لن يستثني أحداً.
وفي الإصلاح تحصين للنفس حتى لاتزل قدم بعد ثبوتها، وثابت الدين من أول وأهم مقومات الثبات وتزكية النفوس وتأهيلها لمواجهة الفتن ومسببات الهلكة.
وقد جاء في التنزيل الحكيم في غير موضع وسياق أهمية ثابت الدين، والإيمان في مثل هذه الظروف:
{وّيّوًمّ حٍنّيًنُ إذً أّعًجّبّتًكٍمً كّثًرّتٍكٍمً}.
{أّوّ لّمَّا أّصّابّتًكٍم مٍَصٌيبّةِ قّدً أّصّبًتٍم مٌَثًلّيًهّا قٍلًتٍمً أّنَّى" هّذّا قٍلً هٍوّ مٌنً عٌندٌ أّنفٍسٌكٍمً}.
ثانياً: توحيد الخطاب السياسي والإعلامي المنبثق من الرؤية الإسلامية المخلصة والصادقة المبنية على الوسطية والاعتدال ومقاربة هذا الخطاب للواقع وإسقاطه على القضايا المتعلقة بالأحداث والنوازل حتى تتكامل الجهود وتتوحد الطاقات.
فالملاحظ أنه ومنذ ان بدأت الأحداث غابت أو غيبت هوية الخطاب السياسي والإعلامي الذي يجمع طاقات الأمة وبوجهها نحو هدف واضح محدد، وعمت الاجتهادات الفردية أو العشوائية في تفسير الأحداث واستقراء الوقائع.
ثالثاً: تفعيل دور مؤسسات المجتمع لتنهض برسالتها وتؤدي أمانتها على الأمة، وبخاصة المؤسسات الدينية المرجعية التي تتمتع بثقة الناس والمتتبع للطريقة التي تعاملت بها هذه المؤسسات مع الأزمة الراهنة يلحظ تقصيراً واضحاً إن على مستوى الأفراد أو على مستوى أداء المؤسسات الدينية التي ينتمون إليها مع بعض الاستثناءات اليسيرة التي لا تعدو كونها اجتهادات شخصية يحمدون عليها.
رابعاً: بعث الأمل وإحياؤه في النفوس والحديث عن مقومات النصر ومكامن القوة في الأمة حتى لا تجتمع عليها حملة العدو وإرجاف المخذلين.
خامساً: تكثير الأصدقاء وكسب المنصفين، ففي الغرب عقلاء وقافون أمام الحق والعدل ويرفضون المشروع الغربي الذي يتحالف فيه غلاة النصارى مع المتطرفين الصهاينة. وفي كل يوم يزداد عددهم، ويرتفع صوتهم، وتسمع كلمتهم.
هذه أولويات عامة، وتطبيقها تتسع دائرته ليشمل كل فرد في المجتمع كل بحسبه. والإحساس الجاد بأهمية ما يدور وما يحاك للأمة والإدراك الكامل بأن ما يحدث في المنطقة يعنينا نحن كفيل بأن يجعل الطاقات والجهود على كل مستوياتها تتكامل لتحقيق الهدف المشترك.
(*) أستاذ الإعلام السياسي المشارك بجامعة الإمام / الرياض
|