السعودة، هذا الهم الوطني الذي يتفرع من مضمونه قضايا كثيرة يمكن ان يطلق عليها اجمالاً «التحدي التنموي»، والسعودة ليست وظائف أو تشغيل عمالة أو مواجهة مع البطالة أو تخفيف عمالة وافدة أو تخفيف تحويلات خارجية أو هاجساً أمنياً أو إشكالية اجتماعية أو مشكلة مجتمعية، بل هي أكثر وأكبر وأعمق من ذلك بكثير. السعودة في واحد من أبعادها حس وطني رباعي التركيب، جزء تعنى به الدولة، وآخر تعنى به الحكومة وثالث يعنى به صاحب العمل أما الجزء الرابع فهو، بالطبع، ما يخص المواطن «العامل». الجزء الخاص بالدولة يفوق في نسبته وأهميته الأجزاء الأخرى، لأنه الجزء الخاص بالبنية والبيئة التي تقوم عليها السعودة في مفهومها الأمني والاقتصادي والاجتماعي والمجتمعي، وإذا كانت السعودة في ظاهرها تبدو حلاً لمشكلة البطالة التي يواجهها المواطن فهي في عمقها الذي لا يتبدى من أول وهلة، مزيج لكم هائل من عناصر الإدارة الوطنية. من السهل على المراقب ان يلقي باللائمة على شماعة الحكومة سواء فيما يخص البطالة أو العمالة الوافدة، كما انه من الكسل الفكري إلقاء اللائمة على صاحب العمل وأصحاب المؤسسات والشركات، ولا ننسى انه من السذاجة، أيضاً، توجيه اللوم إلى المواطن «العامل» في كسله، أو عدم كفاءته العلمية أو الفنية، أو الانضباطية إلى آخر ذلك. في هذه المقالة أوجه الحديث إلى الخبراء الذين أوكل إليهم مهمة فك الاختناقات التنموية، أولئك الذين تعتمد عليهم الحكومة في حل معضلات التنمية ومن أجل ذلك يعتلون أكبر المراتب ويعملون في أجمل المكاتب ويقبضون أعلى الرواتب.
المملكة العربية السعودية تعتبر أمة/ دولة، بمعنى ان الدولة كإطار سياسي سابق على المجتمع، ولذا فإن الدولة، في رأينا هي ذلك الإطار السياسي «الرمز» الذي يجمع في داخله مجموعة من البشر من أجل فكرة نبيلة في منطقة جغرافية معينة، ونتيجة لذلك، فإن الحكومة هي السلطة الإدارية لتنفيذ مجموعة من الإجراءات للوصول إلى الفكرة النبيلة. من خلال التوضيح السابق، نود ان نجادل ان السعودة مهمة يجب ان تقوم بها الدولة أصلاً. ماذا تريد الدولة لشعبها ومواطنيها وحتى للمقيمين على أرضها والزائرين لها، هذه أمور وقضايا تضطلع بفكرتها الأساسية الدولة، وعندما يصبح الأمر واضحاً يمكن للحكومة ان تعمل على تنفيذ تلك الفكرة الأساس حتى لو كانت حلماً بعيد المنال.. رفاهية المواطن، من ناحية أخرى، هي مطلب تهدف إليه كل المجتمعات وتحاول جميع الدول دون استثناء الوصول إليه، ومن هنا جاء مصطلح «دولة الرفاه»، ولذا تختلف الدول في الوسائل المتبعة لتحقيق هذا الهدف وهذا المطلب الاجتماعي.
رفاهية المواطن السعودي أمر لم يغب عن بال مؤسس المملكة العربية السعودية وموحد هذا الكيان الكبير، ولذا نجد ان من المفيد الاستشهاد بقول مأثور ومشهور عن الملك عبدالعزيز رحمه الله إذ يقول: «ستنعمون برفاهية هي أكبر بكثير مما كان عليه آباؤكم وأجدادكم»، ولو فكرنا في قول الملك عبدالعزيز لوجدنا فيه وعداً من المؤسس لأبناء هذا الوطن بأن ينعموا برفاهية لم ينعم بها آباؤهم وأجدادهم، وبمتابعة بسيطة نجد ان وعد المؤسس قد تحقق حتى وصل مستوى دخل الفرد السعودي إلى أرقام خيالية وعالمية وتعدى مستوى دخل الآباء والأجداد. في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي تناثر السعوديون في كثير من الدول المجاورة بحثاً عن الرزق لظروف محلية وعالمية، وبعد توحيد المملكة واستقرار الوضع فيها واكتشاف النفط بدأ أولئك الأفراد والجماعات بالعودة شيئاً فشيئاً ومارسوا التجارة ومختلف الأعمال والصنائع في وطنهم وأسسوا بذلك نواة ما يسمى بالمجتمع السعودي. توالت الخيرات والنعم بفضل الله، إرادة وإدارة وموارد، حتى أصبح السعوديون محسودين على كثير مما ينعمون به، وحتى نهاية الثمانينيات والأمر مشجع والكل ينعم بالرفاهية، المواطن والمقيم على حد سواء. مع بداية عقد التسعينيات، بدأ التحول والانكماش نتيجة تناقص أسعار النفط، زيادة مصروفات الدولة، والظروف الاقليمية غير المستقرة، وبذلك، ألهانا الخوف الوهمي من الالتفات إلى حالنا وأوضاعنا وانسقنا خلف سراب الأمن والأمان ننفق ما في الجيب للبحث عن أمن في الغيب، وتوالت الأيام والسنون والديون أيضاً، وبعد هذا كله اصبح هم المواطن السعودي ان يكون بائع غنم وخضار وأشرطة فيديو وسائق سيارة أجرة.
ما نسمعه من حين إلى حين من ضيق في مفهوم السعودة يجعلنا نتفكر في المستقبل ونتساءل: هل المراد والهدف الذي نأمل الوصول إليه ان يصبح المواطن السعودي عاملاً في «دكان» أو في سوق الأغنام، أو سائق سيارة أجرة «تاكسي»، أو بائعاً للخضار والفواكه والأثاث المستعمل وأشرطة الأغاني والفيديو؟ لا نبالغ أو نتجنى، هذا ما نطالعه في صحفنا اليومية. هل هذه هي الرفاهية الجديدة؟ ليس هناك من عيب في ان يصبح المواطن السعودي عاملاً في «دكان» أو بائعاً للخضار، ولكن يجب ألا يكون ذلك أحسن ما يمكن ان نقدمه في شأن السعودة.
يتذرع الخبراء عند مناقشة موضوع السعودة بالزيادة المطردة في عدد السكان وان السعودية من أكثر دول العالم نمواً في السكان. لا بأس، وما الغرابة في ذلك؟ ألم يكن معروفاً مسبقاً نسبة المواليد ونسبة الزيادة؟ ومن أين أتت هذه الزيادة! هل هبطوا من السماء لكي يفاجأ الخبراء؟ يتحجج البعض بأن الفرد السعودي وخصوصاً جيل الطفرة أو «جيل الخادمات» كما يحلو لنا تسميته في بعض الأحيان، كسالى ولا يقيمون وزناً للعمل ولا يعرفون ما يسمى بثقافة أو أخلاقيات العمل. طبيعي جداً مثل هذا التصرف. هل توقعنا غير هذا التصرف؟ انهمرت الأموال فجأة وهاجر أهل الريف إلى المدن وتغير بيت الشعر أو «العشة» إلى بيت من الاسمنت وأرضيات من الرخام ونوافذ من الالمنيوم، ومكيفات تبريد مركزية، وأصبحت مجتمعة الحد الأدنى لجيل البيئة الجديدة. أين بيت الشعر للأمير خالد الفيصل الذي يتردد ملحناً في أكثر من مناسبة: «ارفع رأسك انت سعودي، غيرك ينقص وانت تزود»؟ يتحفنا الخبراء هؤلاء، بأن مناهج التعليم وأسلوب التعليم غير صالحين لخلق جيل عامل يتناسب مع احتياجات البلد، ما شاء الله! وهل عرف أولئك مناهج مختلفة او كان اسلوب تعليمهم مختلفاً عمّا هو متوفر حالياً؟ العجيب والغريب، ان كثيراً مما تفتقت عنه اذهان هؤلاء لمعالجة كثير من التحديات التي تواجهها الدولة هو تقديم حلول كسولة وخطيرة، نعم كسولة وخطيرة، الكسل يكمن في عدم التفكير بعمق لإيجاد الحلول، والخطورة تكمن في ان الحلول المقدمة من أولئك أو ما يظن بأنه حلول، تزيد في بعدها أشد البعد عن الحل.
التحديات التي تواجه المملكة العربية السعودية، مثل أي دولة أخرى في العالم، كثيرة ومتنوعة ومتسارعة ومترابطة في كثير من أبعادها مثل: نقص المياه، زيادة عدد السكان، المرأة، البطالة، تحديث التعليم، تحديث وتوسيع البنية التحتية، الدين العام، المشاكل البيئية، العمالة الأجنبية، المخدرات، والتفاعل مع العالم الخارجي بكل أشكال ذلك التفاعل: تقنياً وعلمياً وثقافياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً، ولذا لا يمكن التعامل مع تلك التحديات بحزمة من الأفكار الكسولة.لذا يا سادة، انظروا حولكم فالمثل الشعبي يقول: «من له عين وراس سوّى سواة الناس». وسنكتفي بذكر تجربة واحدة..
التجربة اليابانية:
اشتهرت اليابان بالصناعة ومنها صناعة الأجهزة الكهربائية والالكترونية وتفوقت في ذلك وارتفع دخل الفرد الياباني إلى معدلات قياسية، ولكن بتنامي دخل الفرد لم يعد ممكناً للفرد الياباني، من ناحية، ان يعيش على دخل تلك الأجهزة المتناقص سعرها باستمرار في ظل المنافسة العالمية ومن ناحية أخرى، لم تستسلم الحكومة اليابانية أو تقبل بدخل أقل للفرد الياباني، ماذا حدث؟ تفتق الذهن الياباني بأن تقوم الشركات اليابانية ببيع أو تأجير رخص التصنيع لدول أخرى أقل في مستوى المعيشة مثل: تايوان، كوريا الجنوبية، وماليزيا، لكي يصنعوا الأجهزة اليابانية بأسعار منافسة واكتفوا بتصنيع الشرائح والمواد المتخصصة والتي يكون التنافس فيها أقل ودخلها أكثر، إضافة إلى الدخل الذي تحققه الشركات من حقوق البيع أو التأجير. الهدف هو ابقاء دخل الفرد الياباني ثابتاً، على الأقل، إذا لم يمكن زيادته. يستطيع أي متسوق أن يدرك الفرق بين جهاز تلفزيون صناعة يابانية وآخر صناعة ماليزية، بنفس الاسم والنوع والحجم. ما نود قوله، هو انه يمكن الارتقاء بجيل الشباب السعودي ودفعه إلى سوق العمل المهني العالي دون ان يكون ذلك على حساب المقيمين من عمالة تؤدي خدماتها بالشكل المطلوب منها. يمكن للخبراء في المملكة، إذا أرادوا ان يرتقوا بأجيال الشباب إلى سوق العمل العالي عن طريق التدريب ثم التدريب ثم التدريب. استراتيجية وطنية عليا تضع خططاً ذات أهداف طموحة تمتد حتى العام 2020م، ولكي نضمن الوصول إلى ذلك الهدف يجب ان «نبدأ من أمس»، كما يقول المثل الغربي، وللتدليل على ما نقول سنورد عدداً من المداخلات في شكل أسئلة.
أولاً: الصورة الذهنية عن الفرد السعودي في كل أنحاء العالم انه برميل نفط متنقل. المملكة العربية السعودية مشهورة ومعروفة بأنها دولة نفطية، لنقصر أفكارنا واقتراحاتنا إذاً على النفط ومشتقاته، كواحد من مجموعة من الاقتراحات. أين أرامكو «السعودية» التي ما فتئنا نسمع انها أكبر شركة نفط في العالم؟ وأين سابك الشركة السعودية للصناعات الأساسية التي تنتج قرابة عشر البتروكيماويات، أو أقل قليلاً من احتياج العالم؟ فقد مضى على أرامكو اكثر من ستين عاماً في صناعة واستخراج النفط، ومع هذا مازالت شركة محلية في فكرها واسلوب إدارتها واستراتيجيتها الوطنية وسمعتها وانتشارها مقارنة مع عمالقة الشركات النفطية: شل، موبيل، إكسون وبريتش بتروليوم. لا يكفي ان يكون لأرامكو استثمارات في هذه الشركة أو تلك، تعود بحفنة من المليارات. المفترض ان تضطلع ارامكو بحصتها من تنمية المجتمع والسعودة وذلك بإنشاء ليس عشرات بل مئات المعاهد الفنية والتقنية لتأهيل الشباب السعودي في صناعة النفط حيث يدخل أي النفط في صناعة 000 ،12 سلعة استهلاكية، خصوصاً، وان المستقبل ينبئ عن زيادة في الاحتياجات النفطية ومشتقاتها من الخليج والسعودية تحديداً، وما ينطبق على أرامكو يندرج على سابك وعلى مشروعات الغاز المستقبلية.
ثانياً: شركة الاتصالات السعودية، هي شركة واعدة والمأمول ان تحتل مكانة قوية بين شركات الاتصالات في العالم، لما تتميز به من إدارة تعتبر جيدة حتى الآن، وما تمتاز به المملكة من موقع اقتصادي قوي، ألا يمكن ان تتبنى شركة الاتصالات بناء وإدارة العديد من المعاهد العلمية والكليات التقنية لتخريج شباب سعودي قادر على تصنيع معظم احتياجات الاتصالات؟!
ثالثاً: البنوك السعودية القليلة العدد التي تحتكر اكبر اقتصاد في العالم العربي وتحقق أرباحاً خيالية، أين هي من المساهمة في بناء قاعدة تدريبية في المجالات المصرفية والاستثمار وغيرها. بإمكان تلك البنوك مجتعة ان تنشئ العديد من المعاهد المصرفية في مدن كثيرة من المملكة لتدريب الشباب السعودي وخلق جيل كامل من الشباب المدرب.
أخيراً، لو ترك الأمر لمجالس إدارات تلك الشركات والمؤسسات، فلن يفعلوا شيئاً هاماً في مجال التدريب الوطني. ما سيقومون به هو بعض برامج تدريب ذاتية تعنى بشركاتهم ومؤسساتهم في صورة ضيقة أبعد ما تكون عن العمل الوطني الشامل والمنظم.
قبل ان نختم مقالتنا نرى انه لزاماً علينا ان نذكر تجربة تدريب تستحق الاشادة، إذ تقوم شركة الزاهد بتدريب العديد من الشباب السعودي الذين يعانون من مشاكل في السمع والنطق للعمل في عدد من تخصصات الشركة. المثير، ان شركة الزاهد بالتعاون مع مركز جدة للنطق والسمع لم تكتف بتدريب الشباب فحسب بل هيأت مكان العمل لكي يكون ملائماً في نواحي السلامة والممرات وسبل التخاطب وتعريف الأدوات مما استغرق اكثر من عام لبدء التشغيل، كما ان الشركة مستمرة في متابعة إنتاجية أولئك الشباب بتقارير دورية وبمتابعة مستمرة من الشركة ومن مركز جدة للنطق والسمع. هذا العمل الخلاق تم من شركة سعودية خاصة وصغيرة الحجم نسبة إلى الأمثلة التي ذكرناها آنفاً.
ختاماً، هل أعددنا العدة لاستقبال «000 ،000 ،20»، نعم عشرين مليون نسمة في العقدين القادمين؟ والسؤال الأخير، هل يمكن لأبناء الجيل الحاضر ان يستذكروا قول المؤسس؟ أو بعبارة أخرى، هل يمكن للدولة ان تبقي وعد المؤسس حياً على مر الأجيال؟ إذ لو قيل عن الفرد السعودي انه عامل حفر آبار نفط، أو مهندس جيولوجي أو كيميائي أو مصرفي فلن يستغرب أحد في العالم كله. الغرابة كل الغرابة، إذا قيل عنه انه بائع غنم أو خضار أو أشرطة فيديو أو سائق ليموزين بينما هناك أعمال أهم في بناء الوطن دون انقاص أو تقليل من قيمة من يعمل في هذه المجالات الصغيرة.
فهل لنا أن نستفيد من تجارب الآخرين ومن التجربة اليابانية؟
(*) رئيس مركز سعيد العمري للدراسات الاستراتيجية والأمنية
FAX:(02)6052909
|