ان ما نسميه موهبة أو نبوغا من خلال الاعمال الخالدة التي تشرئب أعناق طلاب المجد إلى الوصول اليها ما هو في الحقيقة الا جهد مبذول ومعاناة فكرية في الغالب، وحين تتكرر محاولة بذل الجهد والفهم معا تتولد عن ذلك القابلية الذهنية لدى الفرد ويتهيأ الاستعداد الخاص وتنضج القدرات الخاصة الكامنة في تكوين الإنسان النفسي، ومن ثم تتفتح السبل امام الذهن فيستطيع المرء أن يسير في طريقه المختار بوضوح ويكتسب مرونة ذهنية يستطيع بواسطتها وغيرها من العوامل ان يجعل من عمله ابداعا ومن فئة ومضات فنية رائعة يرتاح لها الوجدان وتحوم حولها الأشواق. وتفتح في أفق المتذوق نافذة جديدة على أسرار الحياة.
وحينذاك يعتقد البعض ان ما حدث انما هو شيء غير عادي.. انه نبوغ حطم المقاييس وعبقرية تخطت النواميس، وبعبارة اخرى العبقرية أو النبوغ في اعتقادي ليسا الا التصرف الحسن المناسب امام العقبات التي تعترض تقدم الإنسان الفكري وتذليل هذه العقبات وتلك الاحداث بالاصرار والصبر واعمال الفكر فيها لتكون فيما بعد من لبنات حضارته ومن ثمرات نضجه.
ولكي تزدهر هذه المعطيات، الكامنة وتؤتي أكلها اليانعة بحيث ان تلاحظ انها ترتكز على اساسين هامين هما:
أولاً: قدرات طبيعية فطرية خاصة او منح ربانية اودعها الله في هذا الإنسان المختار ممثلة في كيانه العاطفي والعضوي.. وقد اشبعها علم النفس بحثا ودراسة.
والإنسان إذا اعتمد حقبة من الزمن على قدراته الفطرية لم يقدر أن يستفيد منها كما أراد له خالقه، فاته ان يدرك ان العلم والمعرفة هنا محك الحقل وهما البوتقة التي تنصهر فيها طاقاته الطبيعية. وهما من ابرز الدوافع للتجربة والاستكشاف التي يتولد عنها اشعال جذوة الشوق إلى آفاق جديدة في مراحل التطور، وارتباط بعضها ببعض القدرات الطبيعية والمكتسبة من الضرورة بمكان لاكتشاف أمثل حياة واستدرار خيراتها وهو طريق إلى الايمان بأرقى اسلوب للحياة المادية والروحية وهما يكملان بعضهما بعضا باتزان مطرد وتناسق طبيعي هو في حد ذاته رسالة الإنسان الكامل في هذا الكوكب.
ونحن نرى اختلاف عقليات الناس وتفاوت قدراتهم يرجع في اساسه الى مدى ارتباط هذين العاملين ببعض ومدى صقل البعض لما اعطى من قدرات طبيعية مستخدما في ذلك المعرفة التي هي في صميمها المحك للمواهب، المنضج للعقل المدبر للقدرات البكر المجهولة في أغوار النفس يسخرها لمصلحته ويعرف الغرض من ايجادها فطريا فيوجهها حسب معرفته.
فمنهم من استغل ذلك واستفاد من معطيات عقله وقدراته وقد خطا الإنسان في هذا الطريق خطوات واسعة وأشواطاً بعيدة بالقياس الى عمله، وقد وجد من صور الابداع والنظام في خلق الله ما أدهشه ورد اليه ايمانه بعد غرور.
ومنهم من تأخر في استغلال هذه المواهب والقدرات فظهر ذلك في اسلوبه في الحياة ومنهجه في التفكير والعمل.
وكان لهذا الاختلاف وهو يمثل في الأول قوة وفي الثاني ضعفا، ان عرفت السيطرة والاطماع، اما الفوارق المحلية بين الشعوب فلاتخرج عن هذه القاعدة وتندرج تحت تأثير عامل اختلاف الظروف البيئية حضارية كانت ام طبيعية.
اما الصبر فهو من الركائز الهامة في عملية صقل هذه المواهب وهذه المعطيات الفطرية والوقوف على القدرات الكامنة وربما كانت العبقرية أو النبوغ صبراً وفهماً واعياً، وليس معنى ذلك ان الاستعداد النفسي الكامن والتركيب الروحي ليس له دور بل اننا لانستطيع الحكم على الجوهرة النادرة والاستفادة منها قبل تمحيصها وصقلها.
ولذلك فإننا نخرج من هذا الحديث بحقيقة ناصعة ونتيجة مقررة وهي ان كل عبقري موهوب وليس كل موهوب عبقرياً، فالعبقرية إذن استعداد فطري كامن يعقبه جهد واع مثابر ينتج عنه انتاج جديد فذ يضيف الى تراث الانسانية الخالد رافدا جديدا ويمده بنبع ثر يصب في نهر الحياة.
|