بدأ اقتصاد المعرفة يتشكل في فترة الثمانينيات من القرن العشرين «الماضي» نتيجة لتداخل أو تشابك مجموعة من الظواهر لعل من أبرزها؛ ثورة الاتصالات، وانفجار المعلومات، وانتشار استخدام تقنية المعلومات. ويعتبر اقتصاد المعرفة المحرك الأساسي الذي دفع بالمجتمع إلى مجتمع جديد يدعى مجتمع المعلومات.
لقد حولت ثورة المعلومات المعرفة إلى مورد أساسي من الموارد الاقتصادية. وبذلك أصبح الاستثمار في مجال المعلومات والتقنية أحد عوامل الإنتاج، إذ إنه يزيد في الإنتاجية ويزيد من فرص العمل. كما أن المعرفة وتقنية المعلومات بدأت تحل محل رأس المال والطاقة كموارد قادرة على زيادة الثروة. وهناك من يرى أن قطاع المعلومات أصبح الآن قاطرة التنمية والتطور الاقتصادي في مختلف دول العالم.
وقد بدأ اقتصاد المعرفة Knowledge Economy أو الاقتصاد الكمبيوتري، أو الاقتصاد العقلي أو اقتصاد الإنترنت والتجارة الإلكترونية والدوت كوم «الاقتصاد غير الحقيقي» يحل بسرعة مطردة محل اقتصاد العضلة والأرض والآلة «الاقتصاد الحقيقي» كمصدر للقوة وينبوع للثروة، مما يتطلب تحول المجتمع المعني إلى مجتمع للمعرفة Knowledge Society. إن كل نظام تعليمي لا يعي ذلك ولا يدركه ويتكيف معه يقضي على امكانات التقدم والأمن التعليمي والاقتصادي لطلبته وشعبه.
اقتصاد المعرفة هو نظام اقتصادي يمثل فيه العلم الكيفي والنوعي عنصر الانتاج الأساسي والقوة الدافعة الرئيسية لتكوين الثروة. ويختلف هذا الاقتصاد عن الاقتصاديات الأخرى في بعض الأوجه المهمة؛ مثل أنه لا يمكن نقل ملكية المعرفة من طرف إلى طرف آخر وذلك على عكس عناصر الإنتاج الأخرى، ويتسم اقتصاد المعرفة بأنه اقتصاد وفرة أكثر من كونه اقتصاد ندرة، وبذلك يكون على عكس أغلب الموارد التي تنضب من جراء الاستهلاك، بينما تزداد المعرفة في الواقع بالممارسة والاستخدام وتنتشر بالمشاركة، ويسمح استخدام التقنية الملائمة بخلق أسواق ومنشآت افتراضية تلغي قيود الزمان والمكان من خلال التجارة الإلكترونية التي توفر كثيراً من المزايا من حيث تخفيض التكلفة ورفع الكفاءة والسرعة في إجاز المعاملات على مدار الساعة وعلى نطاق العالم. ومن الصعوبة بمكان في اقتصاد المعرفة تطبيق القوانين والقيود والضرائب على أساس قومي بحت، فطالما أن المعرفة متاحة في أي مكان من العالم وأنها أصبحت تشكل عنصر الإنتاج الأساسي، فإن ذلك يعني أن هنالك اقتصاداً عالمياً يهيمن على الاقتصاد الوطني.
في الجزء المتبقي من هذه المقالة سيتم استعراض العناصر أو العوامل الرئيسة للنظام الاقتصادي والمؤسسي التي يجب على صانعي السياسات وضعها نصب أعينهم وهم بصدد وضع السياسات المتعلقة بالاستفادة من اقتصاد المعرفة.
يحظى اقتصاد المعرفة باهتمام متزايد في الآونة الأخيرة من قبل الدول النامية وباتجاه متزايد نحو المستقبل ويعود ذلك للتطورات الهائلة في مجال العلوم والتقنية وتقنية الاتصالات والمعلومات بشكل خاص «كما أسلفنا» وما تحدثه من انعكاسات على الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
إن سر اهتمام الدول النامية بذلك يعود في المقام الأول إلى الخطر الذي يهددها والمتمثل في فجوة النمو المعرفي التي تفصلها عن الدول المتقدمة ففي الوقت الذي تصل فيه نسبة الاستثمار في المجال المعرفي نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي GDP في الدول المتقدمة نجدها لا تتجاوز 1% في الدول الأقل تقدما.
إن الوصول للمعرفة أو الاستزادة منها لن يحدث تأثيراً اقتصادياً واجتماعياً ما لم تستخدم هذه المعرفة بصورة منتجة، كما أن الوصول إلى المعرفة لن يحدث تغييرا كبيراً ما لم يتوفر كل من الحافز والمقدرة لدى الأشخاص والشركات والمنظمات للاستخدام الأكفأ لهذه المعرفة.
فالمقدرة تمثل لدى الأشخاص فيما يتوفر لديهم من تعليم ومهارات كما يتمثل الجانب الأكبر منها في كل من الحوافز والهيكل المؤسسي داخل الاقتصاد، لذلك فالدول النامية بحاجة إلى وضع استراتيجية شاملة للإفادة من اقتصاد المعرفة والذي يتضمن مزيداً من الاستثمار في البنية التحتية في مجالات التعليم والمعلومات والاتصالات، هذه الاستراتيجية تقوم على أربعة محاور هي:
1- إيجاد نظام اقتصادي مؤسسي يحفز على الاستخدام الكفء للمعرفة.
2- إيجاد شعب متعلم قادر على الابتكار والمشاركة في الاستخدام الجيد للمعرفة.
3- إيجاد تحتية معلوماتية ديناميكية قادرة على تسهيل الاتصالات وإعداد ونشر المعلومات.
4- إيجاد نظام ابتكاري يتميز بالكفاءة داخل المؤسسات ومراكز الأبحاث والجامعات والمراكز الاستشارية وغير ذلك من المنظمات.
ومن أجل إيجاد نظام اقتصادي ومؤسسي قادر على الاستخدام الأكفأ للمعرفة إضافة إلى القدرة على ابتكارها فإن هناك عناصر أو عوامل رئيسة «يعتمد عليها المحوران الأول والثاني» تعمل على إيجاد هذا النظام وهي:
الدور المنوط بالقانون:
إن وجود قانون واضح يحترم الحقوق الفردية والتجارية ويتم تنفيذه بدقة وعدالة يعتبر أحد المتطلبات الرئيسية لتطوير الاستخدام الأكفأ للمعرفة. فهو بمثابة الضمان والأمن والثقة في المستقبل بالنسبة للفرد الذي يعتبر مصدر الابتكار في عالمنا.
حقوق الملكية الفكرية:
رغم أن هذا العنصر يندرج تحت العنصر السابق إلا أنه ولأهميته في اقتصاد المعرفة تم إفراده.
إن الفكرة الرئيسية في هذا العنصر هي وجوب إعطاء حقوق الملكية الفكرية لأي معرفة جديدة لمن بذل الجهد لابتكارها دون غيره من الناس وذلك لتوفير الحافز لبذل هذا الجهد، وتتضمن هذه الحقوق براءات الاختراع والعلامات التجارية والأسرار التجارية وحقوق الطبع. وتكمن المعضلة النظرية في هذه القضية في الصراع بين مبدأ حماية الملكية كحافز للابتكار وبين مبدأ نشر المعرفة باعتباره حقاً لكل الأفراد، وتقف الدول النامية في هذه القضية موقف الأضعف على الإطلاق نظراً لأن النسبة الكبرى من الإنتاج المعرفي من نصيب الدول المتقدمة.
لذلك يقترح في هذا الشأن أن تحصل الدول النامية على معاملة تفضيلية نحو حقوق الملكية الفكرية.
النظام التنافسي:
يعد التنافس عاملاً محورياً لتشجيع المزيد من الابتكار وكذلك الاستخدام الكفء للمعرفة إذ يتطلب كل منها المزيد من الجهد والموارد لأنه في غياب التنافس لن يكون هناك دافع لتحسين الأداء. ويعد الانفتاح على التجارة الخارجية أحد العوامل الرئيسية لتشجيع التنافس.
الانفتاح على التجارة الدولية:
يعتبر الوصول إلى المعرفة العالمية من خلال الاستيراد للسلع والخدمات التي تحتوي على المعرفة من الأمور الهامة لانتشار المعرفة العالمية وذلك من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، والتصريح باستخدام التقنية، والدراسة الأجنبية والعمل، والاطلاع على الأدبيات الأجنبية في المجال التقني، ومن خلال الوسائل الإلكترونية المتمثلة في الوصول المباشر إلى قواعد البيانات بالشبكة العنكبوتية «الإنترنت».
كفاءة ومرونة النظام المالي «الأسواق المالية»:
يعتبر النظام المالي بمؤسساته الرئيسية وقواعده المنظمة للعمل به بمثابة العقل المدبر الذي يدير اقتصاد المعرفة، لما لذلك من معلومات قادرة على تخصيص الموارد النادرة من أجل أفضل استخدام إنتاجي.
كما أن على النظام المالي العمل بشكل مباشر على إعادة تخصيص رأس المال من القطاعات المتعثرة إلى القطاعات الجديدة الواعدة مع اتخاذ التدابير اللازمة للتعامل مع هذه القطاعات «المتعثرة والواعدة».
أسواق العمل وكفاية شبكات الحماية الاجتماعية:
يجب أن تتمتع أسواق العمل بالمرونة الكافية لنقل القوى العاملة من الصناعات المتعثرة إلى الصناعات النامية «الواعدة»، وهذا يتطلب توفر المعلومات حول أسواق العمالة إضافة إلى التدابير اللازمة لإعادة تدريب العمالة من أجل إكسابها المهارات اللازمة للوظائف الجديدة. ومراعاة ظروف العمالة التي لا تستطيع التوافق مع متطلبات الوظيفة الجديدة من خلال ما يعرف بشبكات الحماية الاجتماعية والتي تتمثل في وضع حدود دنيا للدخول وتوفير عدد من الخدمات الاجتماعية لهذه العمالة وأسرها.
الحكم الموسع والمساءلة «الشفافية والمساءلة في نظام الحكم»:
أخيراً وبالتحليل على المستوى المؤسسي الأوسع فهناك حاجة إلى إيجاد آليات للحكم الموسع للتكيف مع متطلبات إعادة الهيكلة المستمرة والتعديل وإعادة التخصيص.
ويتمثل هذا العنصر في إيجاد بعض قواعد العمل مثل ضرورة مساءلة الحكومة على المستويين القومي والدولي، وحق المواطنين في مساءلة الحكومة على كل ما تتخده من قرارات.
كذلك يجب على الحكومات اتخاذ خطوات مسبقة مع المشكلات التي يتوقع أن تظهر من جراء الهوة المعرفية بين المتعلمين وغير المتعلمين «الذين يستطيعون الوصول مباشرة لتقنية المعلومات والاتصالات وبين من لا يستطيعون الوصول إليها وهم في الغالب من سكان الريف» حتى لا يحدث تصدع في البناء الاجتماعي.
|