ربما يحدث أن يحتاج الكاتب إلى شحذ صامت لهمَّة البوح عنده...
فعقله الذي في رأسه بلا ريب لن يطيعه لأن يجثو بمنطقه الخارج عن إطار هذا العقل كي يتمكن من لجم تحركات ما في داخله من الأفكار، والمقارنات، والعمليات الذهنية المعقدة، وهو يتفاعل مع واقع الحياة، وطموحاته، بين ما يحدث في هذه الحياة وبين ما يرى أن لا بد أن يكون، بين المواقف ونتائجها، والحروف ومعانيها...
فمن ذا الذي يمكنه أن يؤكِّد بالقلم الأبيض على اللَّوحة السوداء القاتمة التي تقف صارخة أمام هذا العقل في واقع الحياة ويقول: إنَّها أديمٌ رمليٌ رطبٌ قابلٌ للتشكيل، في منتهى اليسر أن تسجَّل عليه خطوات العابرين، بينما الحقيقة أنَّ هذا الأديم طمسته هذه اللَّوحة وحالت بين إمكانية قراءة الحركة التي تحدث فوقه أو الغور فيه، لوحة قاتلة، ملتهمة، طامسة، اختلطت فيها كلُّ الأقوال والأفعال، ولا يمَيَّز عنها الخبيث ولا الطيب ولا فيها، ولا تمكِّن من معرفة الألوان، أو الأشكال، أو التفاصيل، أو الكليات التي تحتويها...
والكاتب لا يتفاعل متسطحاً مع عبور لمعةٍ لهذه اللْوحة كي يتخيَّل أنَّه أحد النبلاء الذين يجلسون في الصفوف الأولى يراقبون حركة الدُّمي فوق مسرح السيرك اليومي الذي فيه تنتصب لهذه اللَّوحة مئات الأعمدة كي تغطي مساحة الرؤية عنده، ولا يمكنه أن يتنصَّل من واقع مسؤولية أن يكون أحد الحاملين لمعازف القول، الطارقين بمعاول البناء، الحاملين للبنات التشييد، ولا يمكنه أن يغفل دور هذا العقل في رأسه كي يتحرَّك تفاعلاً مع حركة تفاعل «كيميائياته» مع معطيات ما حوله، وإدخالها بسلام كي تتغذى منها خلايا هذا العقل وتلتحم بكميائياته كي يقول ما يُسأل عنه، ويحقِّق مسؤوليته، ويمثِّل دوره، دون أن يقف متفرجاً فقط على حركة أسلاك وحبال المسرح وهي تتلاعب صعوداً ونزولاً أو يميناً ويساراً مع حركة الدُّمي المتعلِّقة بها كي تؤدي أدوار الحياة!...
الكاتب... في زمن «الخلط»، و«التلوين»، و«الطَّمس»، و«بسط» دروب العبور الجماعي إلى منافي الصدق... يحتاج إلى أن يحمل على عقله، أو يحمل على قلمه...أو عليهما معاً كما عليه أن يسالم بينهما... كي ينجو من إقصاء صدقه بعيداً حيث المنافي التي أُعدّت له... وأُشرعت أبوابها...
لذا... لم أكن في إجازة فرح كي تشاركوني... ولا راحة كي تهنِّئوني... فلا راحة ولا فرح في معمعة القلق الذي يمارسه الإنسان فوق وداخل اللَّوحة السوداء.
|