تسود حالة من القلق الشديد بشأن تداعيات استخدام القوة المحتمل من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق، ومن أهم المخاوف المتعلقة بهذه القضية هو حدوث انقسام رسمي وطويل بين القوى الرئيسية في العالم، وقد تبدّى الخلاف حول هذه القضية بوضوح في الجدل بشأنها في أروقة الأمم المتحدة منذ عدة شهور وحتى الآن، ويحذر بعض الخبراء من أن هذا الانقسام يمكن أن يهدد الطريقة التي ظل العالم يعالج بها القضايا الأمنية الدولية منذ خمسة عقود تقريبا. يقول ريتشارد سولومون رئيس المعهد الأمريكي للسلام في واشنطن ان قدرة الأمم المتحدة على معالجة القضايا الأمنية الدولية نفسها أصبحت موضع اختبار حاليا، في حين يقول والتر روسيل ميد عضو مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك ان الموقف الحالي يقدم أرضية لكل فرد في المجتمع الدولي، وعندما قدم هانز بليكس رئيس فريق المفتشين الدوليين على الأسلحة في العراق تقريره الثاني إلى مجلس الأمن يوم الجمعة الرابع عشر من فبراير كان المجلس منقسما بالفعل إلى معسكرين الأول يضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والثاني يضم فرنسا وألمانيا وروسيا والصين، وكان الخلاف بين المعسكرين حادا جدا، وقد كان السؤال هو: هل سيؤدي تقرير بيليكس إلى انقسام رسمي في مجلس الأمن كما حدث في حلف شمال الأطلنطي الناتو عندما رفضت ألمانيا وفرنسا وبلجيكا رسميا تقديم أي مساعدات لتركيا عضو الحلف في حالة قيام الولايات المتحدة بشن حربها ضد العراق؟!
كان الأسبوع الماضي قد شهد صدور تقرير من لجنة خبراء دوليين كشف عن امتلاك العراق لصواريخ يتجاوز مداها المدى المسموح به وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي وهو ما تراه أمريكا انتهاكا لهذه القرارات في حين ترى روسيا مثلا أنها مسألة فنية وأن العراق اعترف بوجود هذه الصواريخ في تقريره الذي قدمه إلى مجلس الأمن في السابع من ديسمبر الماضي.
وقد كانت أمريكا تراهن على استغلال هذا التقرير في مجلس الأمن لدعم وجهة نظرها بأن العراق يواصل تحديه للقرارات الدولية وأنه غير مستعد للتخلي عن أسلحته بطريقة سلمية.ورغم أن الخبراء كانوا يتوقعون أن يؤدي مثل هذا التقرير مع تقرير بيليكس إلى تقليل الفجوة بين المعسكرين إلا أن التصريحات التي صدرت عنهما حتى قبل اجتماع يوم الجمعة أكدت على حقيقة هذا الإنقسام، فقد صرح وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر أنه لا يعتقد أن العراق قد ارتكب «انتهاكا ماديا» لقرار مجلس الأمن الأخير مستخدما مصطلحا دبلوماسيا للتعبير عن الشرط الذي يفرضه القانون الدولي من أجل السماح باستخدام القوة ضد العراق.
وعلى الجانب الأخر خرج وزير الخارجية البريطاني جاك سترو ليقول ان العراق قد ارتكب «المزيد من الانتهاكات المادية» لقرارات الأمم المتحدة، كما أعرب عن رفضه للخطة الألمانية الفرنسية التي تدعو إلى دعم عمليات التفتيش الدولي قائلا انها تمثل مكافأة للعراق على انتهاكاته للقرارات الدولية.
وقد كان قرار أغلب الدول الكبرى في مجلس الأمن بإرسال وزراء خارجيتهم إلى جلسة يوم الجمعة مؤشرا هاما إضافيا على الأهمية الكبيرة التي تعطيها هذه الدول ليس فقط لتقرير بيليكس ولكن أيضا للنقاشات التي ستدور حوله فيما بعد.
يقول روسيل ميد أن ألمانيا وفرنسا تؤكدان أنهما مازالا يعطيان الأولوية لعمليات التفتيش ووقف المحاولة الأمريكية لتمرير قرار يسمح باستخدام القوة، ولكنه يضيف أنه لا يعرف حتى الآن مدى جدية الدولتين في هذا الموقف ولكن الواضح هو أن الدولتين تتصرفان وكأن عضويتهما في حلف الأطلنطي شيء من الماضي، ومن المتوقع أن تقدم بريطانيا مشروع قرار جديد إلى مجلس الأمن للمساعدة في صياغة اتفاق دولي حول نزع سلاح العراق بالقوة. ولكن في ضوء تقرير بليكس فإن احتمال تمرير مثل هذا القرار بسرعة يصبح أمرا صعبا، وقد تتخلى بريطانيا عن الأمم المتحدة والانضمام إلى الولايات المتحدة في تحالف الإرادة لشن الحرب ضد العراق، ورغم ذلك فإن صدور مشروع قرار بريطاني بأغلبية كبيرة من جانب أعضاء مجلس الأمن الدولي ودون معارضة من جانب أي من الأعضاء الدائمين يمكن أن يضع كلمة النهاية على الجدل حول العراق، وهذا القرار قد يتضمن الإشارة إلى نهاية سريعة لعمليات التفتيش واعتبار العراق في حالة انتهاك مادي لقرار مجلس الأمن الأمرالذي يعني ضمنا الموافقة على استخدام القوة لنزع سلاحه.
ولكن فرنسا وألمانيا وروسيا ومعها الصين تطرح مشروعا لمناهضة الموقف الأمريكي البريطاني يتضمن إيجاد رقابة دولية دائمة على العراق بما يضمن نزع أسلحةالعراق لفترة طويلة من الزمن، وتتضمن هذه الخطة البديلة الدعوة إلى مضاعفة عدد المفتشين الدوليين مرتين أو ثلاث مرات مع تحسين قدرات التفتيش الجوي، ويقول الفرنسيون أن أغلبية أعضاء مجلس الأمن تؤيد هذه الخطة، في نفس الوق الذي بدا فيه البريطانيون أكثر تشككا في إمكانية تمرير قرار ثان من مجلس الأمن بالمعنى الذي يتطلعون إليه.
يقول مسؤول بريطاني في نيويورك ان الخطة الفرنسية تعد محاولة لتجميد الموقف ولكننا لا نعرف ما إذا كانت فرنسا سوف تطرحها رسميا أم لا، في نفس الوقت يؤكد الخبراء أن توني بلير أصبح أكثر ميلا للتحرك مع الولايات المتحدة دون قرار ثان من مجلس الأمن وأنه يشعر باستياء كبير من الفرنسيين والألمان.
ويقول روسيل ميد ان من الواضح أن الخطة الفرنسية محاولة جادة لتغيير اتجاه المناقشات تماما بين أعضاء مجلس الأمن ليصبح النقاش عن كيفية ممارسة عمليات التفتيش بدلا من الحديث عن كيفية نزع السلاح بالقوة أم دون قوة، أما على صعيد حلف شمال الأطلنطي فإن الخبراء يرون أن فرنسا لن تواصل سيرها في الطريق المضاد لأمريكا لأنها لن تتحمل مخاطر انهيار الكيان الذي تعتمد عليه أغلب الدول الأوروبية في توفير مظلة أمنية لها منذ أكثر من خمسين عاما، ولكن جيمس شتاينبرج مدير إدارة دراسات السياسة الخارجية في معهد بروكنجز الأمريكي يقول ان الموقف قد يشهد نهاية مأساوية عندما يجد كل طرف نفسه في مأزق فيقرر الرئيس الفرنسي جاك شيراك اتخاذ موقف بطولي في مواجهة السيطرة الأمريكية على العالم.
(*) خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» - خاص بـ «الجزيرة»
|