Tuesday 18th february,2003 11100العدد الثلاثاء 17 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الخزن الاستراتيجي بين الحلم والواقع الخزن الاستراتيجي بين الحلم والواقع
علي بن إبراهيم الحديثي (*)

عندما كان الخزن الاستراتيجي فكرة تتقاذفها الأقلام بين مراسلات البيروقراطية وأدراج المكاتب.. كان الحلم بالهدف أكبر من حدود الواقع. ولكن حين ينبري الرجال المخلصون إلى الأحلام الكبيرة تتحول هذه الأحلام إلى واقع ملموس يدحض كل الشكوك بقدرة هذا الوطن وأبنائه المخلصين على الفعل والإنجاز.
هكذا كان الحلم.. وها هو الواقع الآن. المشروع الثالث من مشاريع الخزن الاستراتيجي يبدأ أعمال التعبئة الأولية لينضم إلى مشروعين قبله أولهما كان في الرياض وثانيهما في جدة.. ولا زال الحلم قائماً حتى يتم الانتهاء من باقي مشاريع الخزن الاستراتيجي حيث بقي مشروعات أحدهما في المدينة المنورة والآخر في القصيم.
هذه المقدمة الموجزة تختصر مسافة من الزمن تمتد على مدى العشرين سنة الماضية، حيث وجه مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله بالبحث في أهمية إيجاد مخازن استراتيجية للبترول المكرر تكون محمية من أطماع الأعداء، وكان له حفظه الله ما أراد.
إن التخطيط لإقامة هذه المخازن الاستراتيجية للبترول المكرر في باطن الأرض قد اتسق مع التطور الذي حققته المملكة العربية السعودية في كافة ميادين التنمية التعليمية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، حيث تراكمت الإنجازات التنموية، حتى أصبحت مثلاً يحتذى.
وقد أدركت المملكة العربية السعودية بحكمة قيادتها الرشيدة أن تراكم هذه الإنجازات يتطلب وضع خطط استراتيجية محكمة، لكافة الاحتياجات، والمدخلات الضرورية، للحفاظ على قوة الدفع التي يتطلبها الاقتصاد الوطني، وللاستمرار في التنمية، على أسس ومرتكزات علمية وحديثة، تتناسب مع التقدم الذي حققته الدولة، وتحميه من تقلبات الظروف والطوارئ، خدمة للوطن والمواطن، وحفاظاً على مكتسباته ومنجزاته الثمينة.وبرؤية ثاقبة ونظرة بعيدة المدى، وعت حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين أن التنمية الاقتصادية التي تحققت للمملكة، تتطلب قوة للحق تحميها من أطماع الطامعين، وتضمن رخاء المواطن، وتمكنه من العيش الكريم، في ظلال الأمن والاستقرار، لذا عملت القيادة الحكيمة على تطوير القوات المسلحة، بنفس الهمة والحماس الذي تحقق في مجالات التنمية الأخرى.إن الأهمية القصوى للبترول ومشتقاته، تنبع من أنه المصدر الرئيس للطاقة التي تتطلبها جميع القطاعات المنتجة، لتدوير آلات الإنتاج في المصانع والمزارع، ثم تدوير آلات الحركة في قطاعات النقل البري والبحري والجوي، وتوليد الكهرباء التي أضحت ضرورة ملحة للإنسان، في شتى الاستخدامات اليومية في المنزل والعمل.وإذا كان للبترول كل تلك الأهمية في السلم، فإنه بلا شك أكثر أهمية في أوقات الحرب، بل تزداد الحاجة لمشتقاته بشدة، نظراً لأن الآلة العسكرية الحديثة لا يمكن تدويرها بدون مشتقات البترول، ومهما كانت الاستعدادات العسكرية متقنة ومتمكنة، فإنها لا تعني شيئاً دون توفر الطاقة التي تحتويها المشتقات البترولية.
وقد أثبتت التجارب البعيدة والقريبة، أن مرافق الإنتاج البترولية، هي من أول الأهداف التي تكون عرضة للاعتداء في أوقات الحروب، والهدف من ذلك واضح، حيث إن تعطيل مرافق إنتاج المشتقات البترولية، يؤدي إلى وقف عجلة الاقتصاد والتضييق على مصادر العيش الضرورية للبقاء، ويؤدي إلى شل الآلة العسكرية، و إيقاف الدعم والتموين، الضروريين لمساندة المجهود العسكري، الذي لا يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً ومستمراً دون أن تكون عناصر الإنتاج الاقتصادي في مختلف القطاعات الإنتاجية قادرة على توفير احتياجاتها من الطاقة اللازمة لتدوير آلات الإنتاج والحركة.والتخطيط الاستراتيجي لقطاع البترول ومشتقاته المكررة، وهي المصدر الأساس للطاقة في هذا العصر، يهدف أساساً إلى ضمان توفير هذه الطاقة في كل الظروف، ويصبح بذلك هدف المعتدي أكثر صعوبة، والوطن أكثر منعةً وأمناً. وبوجود هذا المشروع بطاقته التخزينية الهائلة لتخزين المشتقات البترولية، يكتمل عقد منظومة مرافق البترول في المملكة العربية السعودية، من البحث والتنقيب، إلى الإنتاج والتكرير، إلى التسويق والتوزيع، ثم الآن للخزن في منشآت بترولية، تعتبر الوحيدة المحصنة وغير المكشوفة لأهداف المعتدين، خاصة وأنها تقبع تحت غطاء صخري كثيف، وتراقب بسلسلة متقدمة من أنظمة الحماية والتمويه مما يدفع عنها بحول الله الضرر ويمكنها من الاحتفاظ بالمخزون وتوزيعه على الجهات المستفيدة في الأوقات التي تحتاج بها إلى هذه المنتجات.أضف إلى ذلك ما يمكن أن يحققه هذا المشروع من دخل إضافي وزيادة في القيمة المضافة للبترول في حال قامت شركة أرامكو بتسويق هذه المنتجات البترولية المكررة في السوق العالمي عند الحاجة لذلك. ومن المعلوم أن قيمة برميل البترول المكرر تبلغ عدة أضعاف قيمته من البترول الخام.وقد أوضحت المعلومات والإحصاءات المتوفرة في هذا المجال، أنه مع اختلاف طرق التخزين المتبعة في الدول التي تملك مخازن استراتيجية، تبعاً لاختلاف طبيعة المواقع، جغرافياً، وجيولوجياً، ولاختلاف منسوب المياه، إلا أن جميع هذه الدول، اتفقت على إنشاء هذه المخازن تحت الأرض، بأعماق مختلفة، حسب طبيعة المكونات الصخرية للموقع، وذلك لدواعي الحماية، والتحصين، وعدم تمكين المعتدي من الوصول إليها تحت أي ظرف كان.
إن المملكة العربية السعودية، في تشييدها لهذا المشروع، قد حققت إنجازاً فريداً في هندسة وعلوم التخزين الاستراتيجي، حيث إن مرافق المشروع الضاربة في أعماق الأرض، تحتوي على أنظمة وتقنيات هندسية تمثل آخر ما توصلت إليه التقنية الحديثة، وقد تحقق ذلك، بفضل الله، بعد أن قامت إدارة البرنامج السعودي للخزن الاستراتيجي، قبل البدء بتنفيذ المشروع بسنوات عديدة، بإجراء دراسات معمقة، ومستفيضة، حول أساليب التخزين الاستراتيجي في مختلف أنحاء العالم، وأجرت تقييماً دقيقاً لأنواع وطبيعة الصخور، في عدة مواقع في المملكة، اشتمل على دراسة التاريخ الجيولوجي لكل موقع، لتحديد ما إذا كانت أي من مكونات هذا التاريخ، تشير إلى تحركات صخرية تمنع من إقامة المشروع في باطنها. كما أجرت دراسات متعددة حول أساليب الحفر الملائمة لكل موقع بعد اختياره، وأعدت مخططات هندسية مفصلة لكل فرع من فروع الهندسة ذات العلاقة بعلوم التخزين، بالتعاون مع أكبر بيوت الهندسة الاستشارية في العالم.
وقد انتهت هذه الدراسات، إلى إنتاج أطنان من المخططات، والمواصفات الفنية التفصيلية، لكل جزء من محطة الخزن، تم تطبيق ما جاء فيها بدقة، ومهنية عالية، نتج عنها الانتهاء من تنفيذ موقعي الخزن الاستراتيجي في الرياض وجدة، وتمت تعبئتهما وتشغيلهما بنجاح تام دون عوائق. كما تم تسليمهما إلى شركة أرامكو السعودية، المكلفة بموجب التوجيهات السامية الكريمة بتشغيل وصيانة المشروع. وقد أثبتت شركة أرامكو السعودية مرة أخرى أنها أهل لإدارة وتشغيل هذا المشروع الضخم حيث استوعبته ضمن أنشطتها العديدة بكل كفاءة واقتدار.
لقد أظهر التشغيل الفعلي لموقعي الرياض وجدة، حكمة وبعد نظر حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني، التي قضت بأن يرتبط هذا المشروع الاستراتيجي، بدورة الإمداد والتوزيع في قطاع المنتجات البترولية المكررة، حيث أوضحت شركة أرامكو السعودية، أن الدور الذي لعبه مخزون المشتقات البترولية، قد أتاح لها توفير كافة احتياجات السوق المحلي وربما السوق العالمي مستقبلاً، بيسر وسهولة، في كافة الظروف الموسمية الطارئة والعادية، كما أتاح لها مرونة عالية في جدولة أعمال الصيانة للمصافي، دون ضغوط من حاجة المستهلكين الملحة في كل الأوقات.
وكانت شركة أرامكو السعودية قبل ذلك، تتكبد مبالغ كبيرة في سبيل توفير هذه المنتجات من المعروض في السوق العالمي، خاصة في مواسم الحج، وفي حالات الأعطال المفاجئة لأي من منشآتها ذات العلاقة بمراحل الإنتاج والتكرير والتوزيع.
إن إنشاء هذا المشروع العملاق يأتي ضمن خطة استراتيجية وطنية بالغة الدقة والأهمية، وينشأ في بيئة اقتصادية، تتطلب الكثير من التخطيط والمثابرة. وهو بذلك قد مكن المملكة من أن تدرك ما أدركته أكثر الدول تقدماً في هذا المجال.
لقد كان لضخامة المشروع في مختلف مواقعه المنتشرة في أرجاء المملكة دوراً حيوياً وهاماً في تنمية قطاع الإنشاءات المدنية والهندسية، وقطاع الصناعة والنقل والخدمات على مختلف أوجهها على مدى السنوات الماضية، وسيستمر هذا الدور فاعلاً ومؤثراً لسنوات أخرى قادمة. وليتمكن القارئ من تثمين هذا الدور، نشير إلى أن عدد المصانع وشركات المقاولات والموردين السعوديين الذين ساهموا في تنفيذ هذا المشروع تجاوز الألف، وعمل به أكثر من خمسة آلاف مواطن في مختلف التخصصات الهندسية والإدارية والمهنية، تم تدريبهم على أعمال التصميم والتنفيذ والإدارة والتشغيل والصيانة، وتمكنوا بعد ذلك من إدارة وتشغيل الموقعين اللذين انتهى العمل بهما بكفاءة ومهنية عالية.
كما كان لهذا المشروع دور كبير ومؤثر في تعميق وإثراء الخبرة في القطاع الجيولوجي خاصةً وقطاع الهندسة والإنشاءات في المملكة العربية السعودية بشكلٍ عام. حيث أسفرت الدراسات الجيولوجية التي أجراها البرنامج لتنفيذ المشروع عن معلومات ثمينة في هذا القطاع تبقى ملكاً للمختصين في المملكة يستفاد منها حسب الحاجة.
إن هذه المشاريع الاستراتيجية الخمسة في مجملها ما كانت لتتم لولا فضل الله تعالى ثم فطنة وحكمة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الذي أوجد الفكرة ودعمها منذ انطلاقتها الأولي. ومتابعة سمو سيدي ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الذي احتضن هذه المشاريع وخصها برعايته وتشريفه، فقد تفضل سموه الكريم بافتتاح موقعي الرياض في عام 1419ه وجدة في منتصف هذا العام 1423ه. وهي بلا شك نتاج القيادة المباشرة والتوجيه المتمكن والمتابعة الدؤوبة لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام ورئيس البرنامج السعودي للخزن الاستراتيجي، الذي أوكل إليه مولاي خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز، وسمو سيدي ولي العهد، حفظهما الله، مسؤولية قيادة هذا المشروع العملاق، فكان سموه الكريم بحق، رجل البناء الذي لا يكل، والعزم الذي لا يفتر، فقاد هذا المشروع الاستثنائي بحكمته المشهودة، ولطفه المعهود، ومتابعته الدقيقة لأدق التفاصيل، فتحقق النجاح تلو النجاح، وهو ليس بغريب على سموه، فلقد كان هذا ديدن المملكة، وقادتها الكرام منذ أن وثق من وحدتها الوطنية وأرسى قواعدها موحد هذه البلاد الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، يرحمه الله.نسأل الله الكريم أن يديم نعمة الإسلام على بلاد الإسلام، وأن يحفظ لهذه البلاد خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي العهد وسمو النائب الثاني، والأسرة الكريمة، وأبناءها المخلصين، وأن يمتعهم بالصحة والعافية، ويديم الأمن والاستقرار والرخاء في كافة أرجاء المملكة، إنه سميع مجيب الدعاء. والله الموفق،،

(*) مستشار سمو النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، والمشرف على البرنامج السعودي للخزن الاستراتيجي

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved