* باريس بيتر فورد:
يمكننا أن نجد تلميحات في كل ميادين قرى وبلدات فرنسا تفسر لنا العداء العميق للشعب الأوروبي للحرب الأمريكية ضد العراق؛ مثل تلك النصب التذكارية للحروب، منقوش عليها أسماء مئات الآلاف من القتلى، وهي شاهد عيان على قرون من المعارك عبر القارة الأوروبية، وفي الوقت ذاته نجد في داخل كل قاعات البلديات علم فرنسا ذا الألوان الثلاثة وبجواره علم الاتحاد الأوروبي بنجومه الاثنتي عشرة؛ ليذكرنا كيف استطعنا بناء السلام في عالم اليوم.
ووراء الاتهامات بجبن الأوروبيين أو الشعور بالرضا عن قرارهم الحالي بشأن ماذا يفعلون تجاه العراق يقبع في الخلف قلق أوروبا من ماضيها الرهيب وعلى حاضرها المزدهر، فعلى مر خمسين عاما وضع الأوروبيون ثقتهم وأمنهم في حماية القانون الدولي، والذي تم وضعه كل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وفي المقابل يقول جيري بيهي مستشار الرئيس التشيكي السابق فاسلاف هافل: «ولكن الولايات المتحدة لا تؤمن بأن القانون الدولي واجب التنفيذ ويجب احترامه في كل الظروف، خاصة عندما تعتقد بأن لها مصالح أعلى في محل خطر، لذا فإن بيننا وبين الولايات المتحدة صدع وشق يفصل بين نظامنا ونظامهم».
وفي استطلاع للآراء حول العالم أجراه معهد جالوب، تبين أن أكثر من 90% من شعوب 22 دولة أوروبية عارضوا غزوا أحادي الجانب للعراق، في حين لم يتعد عدد الداعمين للحرب حتى تحت مظلة الأمم المتحدة 51 % من إجمالي الأصوات.
وقد أعرب المجيبون على أسئلة الاستبيان بأن السبب الحقيقي وراء تحفظات الأوروبيين العميقة تجاه الحرب هو الشعور العام في أوروبا بأن صدام حسين لا يمثل أي نوع من الخطر قد تراه الإدارة الأمريكية.
كما لم تظهر أي علامات أو مؤشرات ولو ضئيلة تفيد بأن الرأي العام الأوروبي قد تغير؛ حتى بعد خطبة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام الأمم المتحدة والتي اتهم فيها النظام العراقي بدعم تنظيم القاعدة.
أما في الدانمارك فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 45% من الشعب يعارض أي إجراء عسكري ضد العراق تحت أي ظرف من الظروف، ويضيف موجينز جاكوبسن الذي أجرى الاستفتاء عن معهد جالوب: «إن الناس لا يستطيعون معرفة الهدف الرئيسي من تلك الحرب، وذلك لأن الصورة معتمة للغاية، فالكثيرون منهم لا يرون صدام حسين بمثابة خطر حقيقي».
دوافع خفية
أما في فرنسا فتقول جيليز كورمان التي أجرت الاستطلاع لمؤسسة SOFRES: «الناس بصفة عامة يرون الحرب على أنها عملية أمريكية لم تفصح فيها الولايات المتحدةعن دوافعها الحقيقية بصورة واضحة، فهناك شكوك حول استراتيجية الولايات المتحدة في تلك المنطقة، شكوك حول البترول والمصالح الشخصية من ورائه، كما يتساءل الناس: لماذا أصبح العراق فجأة يمثل كل هذا الخطر بعد اثنتي عشرة عاما؟؟ وما هي الحاجة الملحة التي تتطلب حربا يمكن أن تؤدي إلى مقتل الآلاف من البشر؟؟».
وفي ألمانيا يقول ريتشارد هيلمر رئيس وكالة FORSA لاستطلاع الرأي: «إن الناس يتساءلون إذا ما كان الموقف الحالي يحتاج إلى حدوث صراع، كما أنهم يخشون من احتمالية حدوث صراعات أخرى كنتيجة لتلك الحرب».
أما برنارد ماي نائب مدير جمعية السياسة الخارجية الألمانية فيقول ان الألمان بالطبع قد تعلموا دروسا من ماضيهم جعلتهم يتشككون ويقلقون، وقد أصبح الشعب الألماني يشعر بالريبة بعد إرسال قواتهم إلى كل من البوسنة وكوسوفو وأفغانستان، فلم يطلب منا أحد الاشتراك في أي عمليات عسكرية حتى حلول عام 1990، ثم كان أمامنا اثنا عشر عاما لكي نتعلم كيفية التعامل مع أي اعتداء عراقي».
أما الفرنسيون فلديهم أيضا أسبابهم الخاصة ليتمسكوا بشدة بالأمم المتحدة ويقودوا معركة دبلوماسية ليصروا على أنه لابد من صدور قرار آخر من الأمم المتحدة لكي يبرر شن الحرب ضد العراق، وفرنسا قد أصبحت الآن قوة من الدرجة الثانية وأصبح تأثيرها العالمي في تناقص، أما في الأمم المتحدة فهي مسلحة بقوة حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن؛ لذا فهي تتمتع بقوة مكافئة لتلك التي تتمتع بها الولايات المتحدة.
الحرب أداة سياسية
وربما أن فرنسا كانت هي أكثر الدول التي عكست وجهة نظر جوزيف جوفي المحرر بصحيفة «دير زايت الألمانية»، والذي وصف «المزاعم الأخلاقية» الأوروبية بعد عقود من السلام، قائلا بأن «أوروبا قد تغلبت على مفهوم أن الحرب أداة سياسية، فقد تعلمت أعنف القارات في التاريخ أن تتغلب على صراعاتها من خلال المفاوضات، وترى الولايات المتحدة الآن أنها متخلفة بخطوة إلى الوراء، لأنها تصر على أن تتصرف كأنها دولة متفوقة على الأجناس الأخرى».
والمشكلة كما يراها السيد جوفي هي «أننا أصبحنا الآن في مرحلة قد عاد فيها كل من الحرب والعنف إلى الواجهة ثانية، كما تم إعادة تقدير حق القوة العسكرية ودورها في حل الصراعات، أما ما تستطيع أوروبا أن تظهره في واجهة الأحداث وهو «القوة الناعمة» (أو إمكانية الحصول على النفوذ عن طريق التجارة والمساعدات والدبلوماسية) قد تم التقليل من شأنها في الوقت الراهن».ويضيف بأن ذلك قاد إلى «الشعور بالاستياء من الأمريكيين لأنهم يفعلون ما لم يعد الأوروبيون يريدونه أو يجرؤون على فعله».
ويضيف د. ماي بأن وراء هذا الاستياء يكمن «اختلاف كبير بين ثقافتي الولايات المتحدة والأوروبيين، فالأمريكيون أكثر تفاؤلا بكثير، فعندما يرون مشكلة تحتاج إلى حل، فهم يذهبون مباشرة لحلها»، أما الأوروبيون فهم في المقابل أقل قابلية من أن يشعروا «أن تلك المشاكل الصعبة يمكن أن تحل بإجراءات قصيرة الأمد، فهم يخافون أن يؤدي التفاؤل الأمريكي في بعض الأحيان إلى توهم أن هناك حلولا سهلة لكل مشكلة صعبة؛ ففيما يتعلق بالشرق الأوسط اليوم، فإن الأوروبيين قلقون من التحولات التي قد تحدث في هذه المنطقة بعد الحرب، في الوقت الذي يقللون فيه من مخاطر أسلحة الدمار الشامل».
ولكن المعارضة الشعبية الكاسحة للغزو الأمريكي للعراق لم تمنع بعض القادة الأوروبيين من مساندة واشنطن، فهناك عشر دول شيوعية سابقة في أوروبا الشرقية صرحت بأن خطبة باول قد أقنعتهم بأن العراق في حالة «خرق مادي» لقرارات الأمم المتحدة، وهناك ثمانية قادة أوروبيين آخرين وقعوا خطابا مفتوحا لدعم الولايات المتحدة، وقد وضعوا بذلك أنفسهم بصورة حادة بعيدا عن ألمانيا وفرنسا، من أجل التأكيد على ولائهم للولايات المتحدة، فالمجر والتي كان رئيس وزرائها بيتر ميدجيسي أحد الموقعين على الخطاب «تريد أن تكون عضوا وفيا حقيقيا للناتو» كما يقول أندراس بالوف، المعلق في بودابست، ويضيف: «المجر تريد أن تبقى على علاقات ودودة مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على حد سواء؛ ولكن الاتحاد الأوروبي لم يتفق بعد على رؤية عامة حول العراق».
الدور الأمريكي
ويقول السيد بيهي: «إن الدول الشيوعية السابقة تتذكر أن الولايات المتحدة قد لعبت دورا رائدا في التخلص من الشيوعية، لذا فهم لا يزالون يشعرون بالكثيرمن الامتنان لها».
ويضيف بأن ذلك الانقسام بين الحكومات الأوروبية يعرقل جهود التقارب وسد الخلل بين كل من أوروبا والولايات المتحدة، وأن ذلك الخلل «يمكن التغلب عليه في حالة واحدة، وهي إذا ما توحد الأوروبيون وتكلموا بلسان واحد، وبهذه الطريقة سوف يشعر الأوربيون بمزيد من الثقة؛ إن كثيرا مما نراه اليوم في أوروبا نابع من الشعور بعقدة النقص، فأوروبا تريد أن تلعب دورا أكثر أهمية، ولكنهم حتى الآن فشلوا في توحيد جهودهم معا».
ويضيف السيد ماي بأن هذا العجز سوف يترجم في صورة موقف متناقض؛ وذلك لأن «الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم سوف تتولى شأن الحكومات التي تسعى إلى حيازة أسلحة الدمار الشامل، ولكن إذا ما فعلت ذلك، فسوف يقوم الأوروبيون بانتقاد ذلك التصرف أحادي الجانب، في حين أنهم سوف يشعرون بسعادة غامرة بعدما يرون صدام قد رحل بأسلحته للدمار الشامل، ولكن الواقع أنهم لا يريدون أن يقوموا بإنفاق الأموال وبذل الدماء في سبيل ذلك».
وأضاف: «سموا هذا جبنا؛ سموه أخلاقا؛ ولكنه خليط من الحفاظ على المصالح القومية والتوسعية في آن واحد مع البقاء في الظل بعيدا عن مرمى النيران، بالإضافة إلى الحفاظ على الصورة الأخلاقية المثلى بأنها قد سمت فوق الطرق الرجعية للحروب».
خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص بـ «الجزيرة»
|