(العلماء)! ما أعظمها كلمة تنطق! فتلقي في القلوب مهابة وجلالاً و.. إجلالاً للموصوف، لمعارفه العلمية، ولصور النزاهة والموضوعية، وحسن الإدراك لديه، فضلاً عن التسامح، وسعة الصدر ونضج العقل والوجدان، وقد انتفت من ساحته.. الأنانية وصور الكيد والتآمر والغدر والنفاق والكذب، واطمأن الجميع إليه حكماً بحججه، وسكنت نفوسهم إلى الإنصاف عنده، وعلوّ الحق الذي لا يعلى عليه لديه؛ فللكلمة إذن هيبتها واحترامها، فتنبغي إذن صيانتها من عبث العابثين ولهو المتشدقين.. حين تطلق صفة.. لهذا الموصوف أو ذلك.
(العلماء) صفة قد يغني (الأهم) منها، وربما (المهمّ) من علم ينسب..وعالم يوصف.. مع ذلك تبقى مصدر (حرج) و(إحراج) لمن يحترمون (دلالة الألفاظ) وظلال (الكلمات) وهو ما أحسّه هذا الصديق.. فأربك خطواته المضطربة وهو ينهض إلى (المنصة) استجابة للنداء، وقد شملته صفة (العلماء) في مناسبة تكريمية. ما المعايير في هذه (الصفة)؟
لم يكد يتراجع دويّ هذا السؤال في أعماقه حتى اكتسحه خجل جديد وأحد الأعضاء في (لجنة التحكيم) الجامعية - الذي التقاه لأول مرة - يقول له بعد كلمته على (المنصة): «لم نخطئ إذن حين قررنا لك الجائزة والتكريم» إشادة بموقفه الصريح الواضح على (المنصة) في ادانة (الرداءة) الفكرية والسياسية في (وطنه) من دون مجاملة ولا (دبلوماسية).
سعادة صاحبنا نغصتها عليه الصفة التي قد تعوزها الدقة، كما نغّصها عليه أن يتقدم في (الترتيب) في من كان يعتبره استاذاً له، بما قرأه من أعماله قبل أن يزامله، وبقدر خجله من (أستاذه) هذا، كانت سعادة (الأستاذ) بترتيب صاحبه من دون حرج.. ولا ضيق، في حضور معايير علمية واضحة للجنة، فتعمقت مودتهما واستحكمت.. ورسخت.. ولعلها ستستمر بإذن الله.. للمعطيات الواضحة.
ذكّرني بهذا الموقف البسيط العميق الدلالة مع ذلك: شيء من (مظاهر) مناقضة، مظاهر (وبائية) عديدة، حتى في (الجامعات) قلاع العلم والنزاهة والموضوعية، وسواها، فبتّ تبعاً لذلك أستريب في (خلفيات) جوائز كثيرة في الوطن العربي، وفي مؤسسات (علمية) و(أدبية فكرية) وقد مضت الأيام تؤكد الريبة لا في دواليب (عالم الفكر) وفي (دهاليز) هذه الجوائز السنوية الصاخبة: مالياً وإعلامياً التي كثيراً ما خدعتنا ببعض مظاهرها (البراقة) إلى درجة أنني سمحت لنفسي ذات يوم بأن أقترح على زميل تقديم ترشيحه لإحدى جوائزها المغرية: مالياً ومعنوياً، لجدوى ذلك بالنسبة للحركة الأدبية في الوطن العربي، فنظر إلي (الزميل) متسائلاً -في صمت- وعيناه تقولان: أ أنت جاد؟
ثم نطق بهدوء وقد عركته الحياة عركاً، وعركها معاناة، قائلاً: هذه يا أخي «جوائز شللية» جوائز «عصابات لوبية» حيث تتبادل (لجان التحكيم) فيها و(وفود المترشحين) إليها المنافع والمغانم، من منطلق (التحيّز) المنفعي و(الجهوي) عربياً؛ فرأيت في ذلك صورة قبلية جاهلية متخلفة. فقلت له، عبوراً إلى نقطة أخرى، فاتحاً بابا آخر على (عجل): ما رأيك في تأليف -ذكرته له- يسد نقصاً، وقد يحرك (همماً)، فردّ بسرعة: لا عليك، هذا موضوع (تناحر) ميداني، و(تناطح) مصلحي، فيه (الغانم) و(الخاسر) حسب (الكفاءة) في (الوصولية) و(الانتهازية).. وأكمل واقع الحال أنّ (الغانم) بقي (يحلب) في القرب وفي البعد دائماً. (التناطح) و(التناحر) أين؟ أيجوز أن يكون بين علماء؟ بين (العلماء) التعاون والتكامل والتكاتف، بينهما (التنافس) الشريف على (الخير) بحب ومودة، من أجل الاضافة والإثراء للحياة العلمية والأدبية والفكرية، بالجهد الصامت المتواضع، التنافس الشريف الأخوي الطاهر صفة (العلماء) الأخيار، و(التناطح) صفة (الثيران) و(التيوس) في (البراري) و(المروج).
بالتنافس الشريف يتقدم (العلم) و(الفكر) ويصير الرجال علماء عاملين، يتألقون بجدهم ، وجديتهم، وموضوعيتهم، وتواضعهم واخلاصهم، لمعانهم يأتي من ذواتهم، من جهودهم، هم في غنى عن تلميع (اصطناعي) إعلامي، يعشقه ضعفاء النفس، وفقراء الفكر والعقل والوجدان.
في (المحيط المشوه) لعوامل ما.. تروج قيم (الصعلكة) و(الشللية) وأساليب (التلميع) الاصطناعي، وفي (المحيط الصحي) النقي الطاهر يشعّ اللمعان العفوي من العاملين المخلصين، كحال رجال سلف أخيار أطهار، كانوا يلمعون لمعاناً حقيقياً ولا يزالون.. لا تلميعاً اصطناعياً، يلمعون بالجهد والاضافة وليس بالصخب والاستعراضات الكرنفالية، والبهلوانية.. وسواها.. بربطات العنق المزركشة، و(المناديل) الجيبية، والصور الاعلامية الباهرة.. المبهرة.. في حمّى (مظهرية) .. تنافس صور (التنزيلات) الظرفية والموسمية، وأخبار الراقصات و(المغنيات) و(اللاهيات) المشعوذات!
صدق صاحبي بتعبيره (جوائز شللية) وبات (الظن) لدي (يقينا) تاماً حين دفعني الفضول إلى مراجعة جادة لقوائم (فائزين) خلال سنوات مضت في (جوائز عربية)!؟ ذات دوي اعلامي صاخب!
هذا الأسلوب (الجائزي) في ( الوطن العربي) يسهم إلى حد بعيد في تشويه المناخ الفكري، وتلويث محيط.. يجعل (العلماء) الجادين يلوذون بالانسحاب.. من واقع لا يطيقونه.. فيبتعدون عن ساحات (يتناطح) فيها (الضعفاء).. المغامرون.. ويتناحرون، و(العلماء).. لا يفعلون، فهل (يتناطح) العلماء -الجديرون بالتسمية - و(يتناحرون)؟!
(التناطح) و(التناحر) (للثيران) و(التيوس).. لضعفاء الفكر، فقراء الإيمان والوجدان، أما العلماء.. فهم (يتنافسون) بحب.. للخير العام، يتعاونون.. من دون أحقاد، ولا ضغائن.. شعارهم في (الحياة) الدائم {وقل أعملوا، فسيرى الله عملكم} كما ستدركه الأجيال اللاحقة، لامعاً مشرقاً مشعاً صادقاً، لا ملمّعاً.. مغشوشاً، خادعاً، مضللاً.
أ.د. عمر بن قينة
|