يقول غاندي «كن أنت التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم» ولكن التغيير البادي في مواقف الرئيس العراقي صدام حسين بعد أن أيقن أن سيف الحرب مسلط وأقرب إليه من حبل الوريد ماض في استعمال كل الأوراق التي في جعبته، فنحو مزيد من التنازلات، سمح بمقابلات منفردة مع العلماء العراقيين وسلم بليكس والبرادعي تقارير جديدة بثت نفحات الارتياح على أمل التعاون وكما قد أجرى مقابلة تلفزيونية مع الناشط البريطاني والوزير السابق توني بن وأخذ يهدهد لنشطاء السلام لتشكيل دروع إنسانية ولا يتوانى الآن عن دعوة بابا الفاتيكان لزيارة العراق وحسب فيبي مار «مؤلف كتاب تاريخ العراق الحديث» فإن صدام يماطل لكسب الوقت وهذا ما قاله الرئيس الأمريكي جورج بوش عندما قال: «إن صدام حسين يُخادع حتى آخر دقيقة» وهدف صدام حسب فيبي مار أن يصل الصيف والقيظ حتى يخلق صعوبات أمام القوات الأمريكية وحلفائها حيث يتوجب عليها المحاربة وهي مرتدية بزات عسكرية ثقيلة أُعدت لمواجهة خطر أي حرب كيماوية أو بيولوجية أو جرثومية. ومن الأوراق المتبقية في جعبة صدام ورقة الرهائن المدنيين فقد قام باحتجاز المئات من الرهائن الأجانب في حرب الخليج الثانية 1991م ومن ثم وحسب قول فيبي مار «كنا محظوظين في هذه الحرب بأن أطلق صدام الرهائن ولكن هذه المرة يمكنه أن يلعب بورقة الرهائن المدنيين من جديد ليكونوا دروعاً بشرية» وما زالت هناك أيضاً ورقة تفجير آبار النفط العراقي في حال اندحاره وهذا التكتيك سبق أن نفذه في الكويت قُبيل انسحابه منها وأيضاً هناك ورقة تدمير الكنوز التاريخية والمكدسة في العراق وورقة صواريخ سكود والأسلحة الكيماوية والبيولوجية حيث إنه بالمتبقي لدى صدام منها يستطيع أن يضرب إسرائيل والدول المجاورة له حيث ترابض القوات الأمريكية وهذا خيار شمشون حيث سيضغط صدام على كل أزراره مما قد يؤدي لتداعيات خطيرة كرد وانتقام نووي إسرائيلي. وآخر ورقة «وهي التنحي عن السلطة سلمياً» والتي يلوح بها الأمريكان منذ البداية ويعتبرونها مسمار الأمان لقنبلة الحرب الموقوتة التي إن انفجرت سيمتد لظاها ليحرق كل المنطقة العربية فمصر وحدها في حال اندلاع الحرب وحسب التقديرات ستخسر 5 ،3 بلايين دولار شهرياً وستصل خسائر باقي الدول العربية ولاسيما دول الخليج وسوريا والأردن بلايين الدولارات ولن تسلم تركيا أيضاً فالحرب كما يصورها الأمريكان عادلة أو ضرورية ولكن الحرب هي دوماً غير عادلة أو ضرورية.
يقول المثل «من دخل على الأسد في غابته لم يأمن وثبته» واليوم يثب رامسفيلد على أوروبا القديمة «حسب اصطلاحه - ألمانيا وفرنسا وبلجيكا الآن معهم» والناتو اليوم وهو مجلس الأمن العالمي المصغر الفعال يواجه موقفاً حرجاً بعد أن سدت فيه ألمانيا وفرنسا وبلجيكا مسألة الموافقة على مطالبة مخططين عسكريين يبحث إجراءات لحماية تركيا التي يمكن أن تكون منصة انطلاق العمليات العسكرية على العراق واعتبر رامسفيلد هذا التصرف مهينا وإن تركيا لن تتأذى ولكن الأذى سيطال الناتو نفسه. وقال إن فرنسا وألمانيا اللتين تعارضان استخدام القوة فورا قد تجدان نفسيهما معزولتين بدلا من عزل الولايات المتحدة الأمريكية وإن إحجامهما عن مساندة تركيا يشكل تهديداً لمصداقية حلف الناتو، فما زالت عقيدة صقور الحرب الأمريكية في إدارة الرئيس بوش تقول إن استعداد الناتو والأوروبيين واتحادهم لاستخدام القوة هو الحل السلمي المحتمل في الأزمة العراقية ولكن تصريح المستشار غيرهارد شرودر يكسر موجة الاندفاع الأمريكية وهو صرح بأن ألمانيا لن تخفف من نغمة معارضتها لشن الحرب على العراق الآن ولن تذعن لواشنطن وكما قال إن تسرع ومضي الولايات المتحدة في هذه الحرب سوف يؤذي التحالف العالمي للحرب على الإرهاب ويخلق فوضى في الشرق الأوسط وقال: «إن الصداقة لا تعني أن تفعل ما يريده الأصدقاء ولاسيما أنك تملك رأيا مغايرا وأي شيء عدا ذلك لا أدعوه صداقة بل خضوع وهذا ما اعتبره خطأً».
وقد قال وزير الخارجية الألماني أيضاً يوشكا فيشر «مشكلتي أنني لست مقتنعاً فكيف أقنع شعبي» وتصب المقترحات الفرنسية والألمانية لانقشاع غمامة الحرب السوداء على العراق بنشر قوات شرطة دولية في العراق تضمن عمل المفتشين حتى إتمام مهامهم في تجريد العراق من أسلحة دماره الشامل وضمان تحليق طائرات U2 التجسسية ومنع الطيران الكلي في المجال الجوي العراقي وتعزيز العقوبات على الصادرات النفطية العراقية غير الشرعية وتشديد الحظر على استيراد المواد المحظورة. وقد وافق على الخطة كل من بلجيكا وروسيا والصين وهدد لويس ميشيل «وزير خارجية بلجيكا» مؤخرا باستعمال الفيتو «حق النقض» في الناتو - حلف شمال الأطلسي بشأن مسألة توفير الحماية لتركيا في حالة اندلاع حرب ضد العراق.
فالناتو يرفض أن يكون وسيلة لبربرية همجية حتى ولو كانت للولايات المتحدة الأمريكية التي ساهمت ولمدة خمسين عاما في نشوء حلف الناتو واستمراريته وفعالية حق الفيتو في الناتو أقوى منه في مجلس الأمن لأنه ببساطة ليس حكرا على قلة من السلاطين النووية.
كان للثورة الفرنسية أثرها البالغ في تحرير أوروبا من ظلمة العصور الوسطى واستبدادها وبزوغ فجر الديمقراطيات وانتشار نورها في الأصقاع، وتبلورت الديمقراطيات الغربية في إطار رأس مال تجربة ديمقراطية كل دولة على حدة واليوم نشهد مقارعة وتصادم ديمقراطيات بعض دول أوروبا الغربية كألمانيا وفرنسا مع الديمقراطية الأمريكية الفتية المندفعة والتي سعيها لشرب بترول العراق تدوس على كل شيء على غرار ما حدث في قصة الهدهدة والفيل، حيث يُحكى أن الهدهدة اتخذت وكرا وباضت فيها على طريق الفيل وكان للفيل مشرب يتردد إليه فمر ذات يوم على عادته ليرد مورده فوطئ عش الهدهدة وهشم بيضها وقتل فراخها، فلما عادت الهدهدة إلى وكرها ورأت ما ساءها علمت أن الذي نالها من الفيل لا من غيره، فطارت فوقعت على رأسه باكية ثم قالت: أيها الملك لم هشمت بيضي وقتلت فراخي وأنا في جوارك؟ أفعلت هذا استصغارا منك لأمري واحتقارا لشأني فرد الفيل باستهزاء: أجل فهذا ما حملني على ذلك فتركته وانصرفت إلى جماعة الطير فشكت ما نالها من الفيل فقلن لها: وما عسى أن نبلغ منه ونحن طيور؟ فقالت للعقاعق والغربان: أحب منكن أن تصرن معي إليه فتفقأن عينيه فإني أحتال له بعد ذلك بحيلة أخرى فأجبنها إلى ذلك وذهبن إلى الفيل فلم يزلن ينقرن عينيه حتى ذهبن بهما وبات لا يهتدي إلى طريق مطعمه ومشربه إلا بما يصله على وجه الأرض فلما علمت ذلك منه جاءت إلى غدير فيه ضفادع كثيرة فشكت إليها ما نالها من الفيل فقالت الضفادع: أين نحن من الفيل؟ قالت أحب منكن أن تصرن معي إلى هوة قريبة منه فتنققن فيها وتضججن فإنه إذا سمع أصواتكن لم يشك في أن الماء في الحفرة فيهوي فيها فأجبنها إلى ذلك واجتمعن في الهاوية فسمع الفيل نقيق الضفادع وقد أجهده العطش فأقبل حتى وقع في الهوة وهلك فيها وجاءته الهدهدة ترفرف على رأسه وقالت أيها الطاغي المغتر بقوته المحتقر لأمري كيف رأيت عظم حيلتي.
واليوم يصوغ شارون وبوش في قاموس مكافحة الإرهاب الكوني استراتيجية تنحية الأنظمة المستبدة وغير الفعالة، فالأول يسعى اليوم ولاسيما بعد إعادة انتخابه لتنحية ياسر عرفات عن السلطة والثاني يسعى لتنحية نظام صدام حسين وإن النجاح الأمريكي في هذه الحرب سيؤدي حتما لتغيير ملامح المنطقة العربية ومظلاتها السياسية. ولكن القرابين حتما ستكون الشعوب المسكينة ولاسيما العراقي منها فمن يخطط لصفع العراق بقنابل في يوم واحد تساوي مقدار ما قصفته به أربعين يوما قبل اثنتي عشرة سنة حتما لا يأبه بمستقبل العراق والمنطقة بمقدار ما يسعى لتأمين مستقبله هو في المنطقة.
|