Sunday 16th february,2003 11098العدد الأحد 15 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

طبيعة الأزمات وطرق معالجتها طبيعة الأزمات وطرق معالجتها

حصلت في الماضي بمختلف الدول الناشئة أزمات مالية ونقدية حادة. فلا بد من مراجعة سريعة لأسباب هذه الأزمات وأشكالها، والحلول التي اعتمدت لأخذ العبر وتصحيح الوقاية بل العلاجات المعتمدة. في الماضي البعيد، نشأت الأزمات المالية من مشاكل الاقتصاد الحقيقي أي كانت مرتبطة بتقلبات الاستثمارات المؤثرة على الإنتاج والنمو. أما في السبعينات والثمانينات، وقعت الأزمات المالية بسبب الخلل في الموازنات ونسب التضخم المرتفعة والعجز في الميزان التجاري. أما أسباب الأزمات الحديثة أي المكسيكية «1994 1995»، الآسيوية «1997 1998»، الروسية «1998» والبرازيلية «1998 1999»، فنجد مصادرها في قروض القطاع المصرفي وسياسات سعر الصرف الثابت ونسب الديون المرتفعة لشركات القطاع الخاص وفي الفساد الأخلاقي المستشري مؤخرا. الأسباب مختلفة، ولكن السقوط هو نفسه مع ما يتبعه من بطالة وفقر وظلم.
الفارق الرئيسي بين الأنواع الثلاثة هو حجم القطاع المالي الذي نما كثيرا في أواخر القرن الماضي وأصبح السبب الرئيسي للأزمات الاقتصادية الحديثة. نمو القطاع المالي سهل كثيراً عمليات التبادل الاقتصادي من سلع وخدمات وأموال، ولكنه ساهم في نفس الوقت في زيادة المخاطر العامة. فليس هنالك غداء مجاني في الاقتصادي، بل لكل شيء ثمنه.
انتقلت في معظم الأحيان الأزمات الوطنية من دولة إلى أخرى لتصبح إقليمية ودولية. فامتدت عدواها بسرعة وقوة من المصدر إلى دول مجاورة وبعيدة. لا شك أن القرب الجغرافي هو من الأسباب الأساسية لسرعة وقوة انتقال الأزمة بين دولة وأخرى، إنما هنالك أسباب أخرى لا تقل أهمية نوجزها كما يلي:
أولا: مرونة الاقتصاد بكافة قطاعاته وجوانبه. ان الاقتصاد المحرر في قطاعيه الحقيقي والمالي يستطيع استيعاب أو امتصاص الصدمات الخارجية بصورة أسهل. فتتغير المؤشرات الأساسية دون حصول هزة كبرى في ركائز الاقتصاد العام. الاقتصاد الجامد أو المقيد في القوانين والممارسة ينفسخ عند حدوث أية صدمة خارجية قوية.
ثانيا: الأوضاع الاقتصادية الداخلية. فالأزمات تدعو نفسها في الدول ذات الاقتصاد الضعيف أو الهش، والذي يبقى دائماً عرضة لاستقبال أبشع المحن. أما الاقتصاد المحصن داخلياً في نموه وتضخمه وماليته العامة وقوانينه ومؤسساته وأوضاعه التجارية الدولية، فيستطيع مواجهة بل رد الأزمات الآتية من الخارج.
ثالثا: العلاقات الاقتصادية بين الدول. بالعدوى تنتقل بصورة أسرع وأقوى عموماً إلى الدول التي لها علاقات اقتصادية واسعة مع الدول المصابة. عمق العلاقات الاقتصادية وحجمها هما أهم بكثير من القرب أو البعد الجغرافي نسبة لمصدر الداء. من الطبيعي أن يحمل مثلا انتقال رؤوس الأموال بين دولة وأخرى بعض العوامل السلبية الموجودة في كل منها.
رابعاً: لا يمكن عزل أية دولة عن محيطها. فالدولة الواقعة في محيط اقتصادي قوي وسليم تستطيع رفض ورد الأزمات بشكل أفضل من دولة مشابهة موجودة في محيط اقتصادي ضعيف. الدولة القوية هي القوية بنفسها وبمحيطها، بحيث يشكل الحصن المنيع لها. فالدول العربية لا يمكن أن تكون قوية إفرادياً، إلا إذا قوت أيضا نفسها كمجموعة إقليمية وجغرافية.
أما معالجة الأزمات بعد أن تحصل، فتغيرت طرقها كثيراً في العقد الأخير. فالدواء كان مختلفاً جدا في الماضي، بل كان مختلفاً ايضا بين الدول الغنية والفقيرة. كانت ترتكز الحلول المقترحة للدول النامية والناشئة مثلا على دور كبير للدولة في الاقتصاد وعلى إبدال الواردات بالإنتاج المحلي .
أما الحلول الحديثة لكل الدول فترتكز على مبادئ ثلاثة رئيسية وهي تحقيق الاستقرار الاقتصادي الداخلي التوازن المالي، ترشيد الإنفاق، الإصلاح الضرائبي» ، تعزيز قواعد الاقتصاد الحر «تحرير الفوائد، خصخصة، تحرير سعر صرف العملة، تعزيز المنافسة القطاعية» والانفتاح على العالم «تعزيز التجارة الدولية، استقبال الاستثمارات المباشرة ورؤوس الأموال».
تتسابق الدول اليوم على اعتماد هذه السياسات المنفتحة والمحررة للاقتصاديات الوطنية والمرتكزة على دور كبير للقطاع الخاص في الإنتاج والنمو. الفارق الوحيد بين الدول هو السرعة في التنفيذ وشموليته، بحيث تتأقلم الحلول مع الأوضاع الداخلية لكل دولة. ان تنفيذ هذه الحلول لا يشكل الضمانة الكافية والكاملة لحماية الدولة من الأزمات الداخلية والخارجية، بل يجعل الوقاية أفضل وأقوى وضرر الأزمة أخف وطأة على الاقتصاد الوطني.
وكما من المستحيل فصل السياسة عن الاقتصاد، من الصعب جدا فصل علم الاقتصاد عن الاجتماع. فهل يمكن النجاح اقتصادياً دون النجاح اجتماعياً؟ وهل هنالك فائدة أو جدوى من ذلك؟ النجاح الاقتصادي وحده لا يكفي بل ربما يؤدي إلى وقوع ضحايا عديدة ضمن الطبقات الفقيرة.
فالأزمات الأمريكية اللاتينية والآسيوية وغيرها لم تحصل فقط بسبب المشاكل الاقتصادية المزمنة، بل أيضا بسبب سوء معالجة الأوضاع الاجتماعية المتعثرة. كما أن أوضاعها الحالية لا تدعو إلى الاطمئنان لأنها لم تعالج حتى اليوم أوضاع فقرائها. فبرامج صندوق النقد الدولي، التي فشلت في بعض الأحيان، تجاهلت الأوضاع الاجتماعية لتعالج عن قصر نظر وليس عن سوء نية الجانب الاقتصادي وأحياناً المالي أو النقدي وحده. أبرز نتائج برامج صندوق النقد كانت حصول انفجارات اجتماعية خطيرة دمرت كل ما تحقق اقتصادياً. ولم تكن انتقادات الاقتصادي ستيغليتز Stiglitz القوية الا لتساهم في توعية المسؤولين في الصندوق، كما حكومات الدول المقترضة، على ضرورة إكمال العلاجات الاقتصادية بالاجتماعية.
من المفضل توسيع برامج صندوق النقد للدول المتأزمة لتضم إليها برامج مكملة من البنك الدولي، الذي ينظر بطبيعة عمله أكثر من الصندوق إلى الأمور الاجتماعية. المطلوب اذا توسيع أفق برامج صندوق النقد، بالتعاون مع البنك، يؤمن الوقاية الاجتماعية للإصلاحات الاقتصادية بجوانبها المالية والنقدية.
لذا لا بد من النظر في الأوضاع الاجتماعية قبل اتخاذ القرارات المناسبة بشأن الاقتصاد. نلاحظ مؤخرا أن من يفوز بجوائز نوبل للاقتصاد لم يعد اقتصادي فقط، بل أصبح باحثاً أيضا في العلوم المجاورة أو المكملة وخاصة الاجتماعية. لذا لابد من إكمال أية علاجات اقتصادية صحيحة، كالتي ذكرنا أعلاه، بعلاجات اجتماعية تساهم في حماية الدولة وتقويتها.
نذكر هنا تحديدا السياسات الاجتماعية المرتبطة بالصحة والتعليم والسكن وبتوفير الغطاء الكافي للفقراء. فبعض دول افريقيا يعاني مثلا من مشكلة تغذية حادة بسبب الفساد وسوء التوزيع وعدم الاهتمام الكافي من قبل الدول الغنية القادرة. فكيف يمكن تنفيذ إصلاحات اقتصادية مفيدة دائمة في دول يعاني سكانها من الجوع والفقر والبؤس؟ العلاجات الاقتصادية مهما كانت ذكية ستفشل حتما في هذه الظروف، ولا بد من إعادة صياغتها مراعاة للأوضاع الاجتماعية الصعبة. فالنمو القوي مثلا لا يمكن أن يكفي وحده إذا ساهم في زيادة سوء توزيع الدخل بين المواطنين وبين مختلف الطبقات الشعبية.
النمو القوي لا يمكن أن يكون صحياً إذا لم تستفد منه أكثرية، بل مجموعة من المواطنين. الخيار يقع في أيهما أفضل للمواطن العادي، زيادة النمو دون الإساءة إلى توزيع الدخل أو تحسين توزيع الدخل دون الإساءة إلى النمو؟ من الخطورة بمكان التركيز على موضوع توزيع الدخل عبر سياسات ضرائبية وإنفاق اجتماعي مناسب، اذ لا بد وأن يؤثر ذلك سلباً على النمو. الطريقة الأخرى هي أقل خطورة بل إن حظوظ نجاحها أقوى، وهي تنفيذ كل السياسات المشجعة للنمو والمقوية للإنتاجية مع التنبه إلى المفارق الاجتماعية الأساسية التي تصيب توزيع الدخل وتضر بالفقراء. في كل حال، يتوجب على أية حكومة مراقبة نتائج سياساتها تدريجياً وبدقة لمعالجة المساوئ وتصحيح الاتجاه.

د. لويس حبيقة

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved