Sunday 16th february,2003 11098العدد الأحد 15 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من يمتلك الراية؟ من يمتلك الراية؟
د. موسى بن عيسى العويس (*)

الأمن الفكري للشعوب مطلب، ودور المفكرين في تحقيقه مهم، ونخطئ كثيرا إن نحن تصورنا الحروب والمآسي التي تحل بالمجتمعات من هوس رجال السياسة وحدهم، وإن كانوا يمتلكون زمامها. ذلك ما يشير إليه «رونالد سترو» في كتابه «تاريخ الفكر الأوروبي»، حين درس الأسباب الفكرية للحروب العالمية، وخلص إلى أن الحركات التحررية التي بشر بها «نتشه، و«بودلير» من أبناء الجيل السابق للحرب العالمية الأولى، وجدت تربتها الخصبة في الجيل اللاحق وأينعت ثمارها، وأعدت الإعداد الكامل ذهن أوروبا للتفاعل مع الحرب والترحيب بها.
من هنا لم نجد من قادة الفكر إبان الإرهاصات الأولى للحروب العالمية من ينبري لمقاومة الحرب، بل كانوا جميعهم تقريباً من دعاة الحرب والمحرضين عليها، معتقدين أنها توفر الفرصة للتجدد الروحي، واستعادة المجتمع لوحدته، وردم الهوة الفاصلة بين الطبقات، ناهيك عن الرغبة الجامحة في الإثارة والمغامرات الرومانسية.
والمتأمل في دراسة السلوك الجماهيري السائد ماضياً وحاضرا، في كافة الأقطار، ومختلف القوميات، يدرك أن أيدلوجيات الشعوب ورموزها الحركية هي الموجه والمرشد للجماهير، ولا سيما فئة الشباب ذات الطبائع والأمزجة القلقة التي صور لها أن الحروب والحركات الثورية هي الوسيلة الوحيدة للانبعاث الأخلاقي، والسبيل الأمثل لإقامة عالم جديد يقوم على العدل والفضيلة.
ولم يقف رجال الفكر من الحروب موقف المحرض وحسب، بل انخرطوا في صفوف المقاتلين معتقدين أنهم يجاهدون لشقاء نفوسهم، وإنقاذ المدنية، ومن لم يستطع منهم أخذ دوره فعلياً في ساحة الوغى وضع مواهبه في خدمة أجهزة الحرب الإعلامية. لذا فليس من الغرابة في شيء إذا عُدت سنو الحروب العالمية خصبة للأدب بما أوحته للشعراء والأدباء ورجال الفكر.
وليس من الغرابة كذلك إذا قلنا ان معارضة الحرب من قبل بعض المفكرين أصبحت عملاً محفوفاً بالمخاطر الشديدة، فالسلطات البريطانية أقدمت على اعتقال «روسل» بسبب دعوته للسلم، وأمسى «برنادشو» موضعا للتشهير والزجر والمقاطعة في الوقت نفسه.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها رأى أولئك المفكرون أن تلك الآمال الذهبية التي حلموا بها تحطمت تحت قصف الطائرات، وفوهات المدافع، ومحارق القنابل، وأسفرت عن تدعيم الشعور بالقوميات، حيث أصبحت أشد الأيدلوجيات استهواء للجماهير، وبرزت الأنظمة النازية والفاشية والاشتراكية التي سحقت المجتمعات، فتنادى قادة الفكر من جديد لإنشاء الجمعيات، والحركات المناهضة للسلام، والتي أصبحت لا ترى في الحروب إلا الرعب والعبثية والعدم، وهكذا تحول الإنسان المفكر من معول هدم إلى صانع حضارة. وهكذا تصدق تنبؤات الشاعر حين قال:


لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تنقادُ

لقد جهد علماء التاريخ والاجتماع، والباحثون في الحروب وأسبابها، وتحليل نتائجها ورصدها للأجيال ألا يلقوا بالمسؤولية على أي طرف من الأطراف السياسية، بل ولا على الدول، لقناعتهم بأنها مسؤولية المفكرين، والمؤسسات الدينية والتربوية التي تصوغ مستقبل الأمم، وترسم سبلها، وتتحكم في توجيه عواطفها وانفعالاتها.نعم استطاع قادة الفكر أن يوحوا للملايين من البشر عبر مذكراتهم ومقالاتهم أن زعماءهم قد خدعوهم وكذبوا عليهم حينما حملوا العدو مسؤولية الحرب، واستطاعوا أن ينزعوا الاعترافات من وزراء الدعاية والإعلام بأنهم اختلقوا معظم ما أذاعوه من الفظائع والجرائم، وبذلك زادوا من شك الجماهير في مصداقية الساسة، بعد أن بدلت الحروب كل نظرة ومفهوم، ودفعت بالأجيال نحو الحيرة والضياع، وأفقدتهم الإيمان بالأمل والتقدم، بل وفقدان الثقة بهدي الحضارات. فهل يعي قادة السياسة هذه الأيام دور المفكرين في صنع الاستقرار العالمي، و هل يستطيع المفكرون والمثقفون استعادة أدوارهم التاريخية والإنسانية؟ سؤال لم يجب عليه ويستجب له ويعيه سوى قادة هذه البلاد في مساعيهم الداخلية والدولية نحو السلام.
من التراث:


وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عادٍ، ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم مالا تغلّ لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا
بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن
بعيدين فيها من عقوق ومأثم

(*) إدارة تعليم منطقة الرياض

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved