أهل الذكر وطلاب العلم وحرّاس الفضيلة الصادقون المخلصون العباد الزاهدون منابر النور وقناديل الضياء هم الخير وبهم يبتسم الكون وتستغفر لهم الكائنات حتى الحيتان في الماء.. وبوجودهم ينتشر الخير وتعم البركة {وجّعّلّنٌي مٍبّارّكْا أّيًنّ مّا كٍنتٍ} ما أجمل سمتهم وهدوءهم وما أحسن وجوههم المشرقة بنور الله والمسفرة بالإيمان.. إنهم الخير والسعادة والحياة الهادئة الطيبة {فّلّنٍحًيٌيّنَّهٍ حّيّاةْ طّيٌَبّةْ} هؤلاء العلماء المصلحون هم زينة الدنيا وبهجتها هم نظامها واتزانها واستقرارها بفضل ما يحملون في صدورهم من نور سماوي وما يحفظون في عقولهم من علم رباني.. ولكن هذه سنة الحياة نور وظلام، فرح وحزن، ابتسامة إشراق، تقطيب واشمئزاز وانقباض قما تدوم الحياة صافية وما تدوم الظلمة مطبقة فلابد لها من النور الذي يبددها..
وبعد أن جفت مآقينا وتوقف بكاؤنا ونسينا مأساتنا وآلامنا على رحيل علمائنا الأفذاذ.. ابن باز، ابن عثيمين - رحمهما الله - وغيرهما كثير ها هي المأساة تعود والألم يتكرر والدمع يتحرك ويتدفق برحيل هذا الشيخ العالم الزاهد الجليل أبي عبدالرحمن عبدالله بن عبدالرحمن بن صالح بن حمد بن محمد بن حمد البسام بالأمس القريب في ضحى يوم الخميس 27/11/1423هـ ودعنا هذا الرمز وتركنا هذا العلم ليلحق بركب العلماء الأفاضل الذين سبقوه ويحث الخطى ركضاً ليقابل - إن شاء الله - في الرفيق الأعلى رفيق دربه الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - فهما ابنا بلدة واحدة نشآ وتربيا في مدينة عنيزة بالقصيم.. وقتهما ومراتع طفولتهما قضياه بين الكتاتيب وفي حلقة العلم وروضات المساجد.. يالها من حياة جادة مملوءة بالخير والعلم والصلاح شيخهما وصاحب بذرة هذا التدفق والسيل العلمي هو الشيخ السعدي - رحمه الله - فقد طلبا العلم على يديه وتغذيا من حلقته ومجالس علمه المعارف الكثيرة والشيخ البسام - رحمه الله - قرأ الكثير من العلوم على شيخه السعدي رحمه الله فقرأ في تفسير الجلالين وفي تفسير السعدي الذي كان يلقيه رحمه الله من حفظه، وقرأ على شيخه صحيح البخاري والمنتقى وبلوغ المرام أيضا في كتاب التوحيد والواسطية وشرح الطحاوية وبعض مؤلفات الشيخ السعدي وقرأ أيضا في أصول الفقه في الورقات ومختصر التحرير وفي الفقه قرأ في متن الزاد وفي شرح الروض المربع وفي المنتهى وقرأ أيضا في النحو والصرف في القطر وفي ألفية ابن مالك وشروحها وغيرها من العلوم والمعارف الكثيرة التي فهمها وحفظها ورددها هو وزملاؤه في حلقة الشيخ.
استمرت هذه الحياة والرحلة والدورة العلمية المكثفة ثماني سنوات وشيخنا البسام رحمه الله ينهل من خيرات ومجالس دروس الشيخ السعدي رحمه الله ولم يكتف بالساعات الطويلة التي يقضيها في الدرس بل كان يسهر الليل ولا ينام إلا متأخراً لكي يستعيد ويراجع ما قرأه وحفظه في حلقة الشيخ، تلك هي الحياة وهذه هي المتعة والسعادة وهذا هو الجد والطلب وبرمجة الوقت وتنظيمه..
بعد أن وعى جل هذه العلوم وأصبح مهيأ للتعليم التحق بدار التوحيد بالطائف وذلك في عام 1365ه وجد في هذه الدار الكثير من العلماء منهم الشيخ الخليفي والشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ محمد حسين الذهبي وغيرهم من العلماء وفي عام 1374ه أنهى دراسته الجامعية وعمل في القضاء وأخذ في القاء دروسه في المسجد الحرام وأصبح رئيسا للمحكمة الكبرى في الطائف ثم رئيسا لمحكمة التمييز بمكة المكرمة 1400ه إلى أن أحيل الى التقاعد في عام 1417ه وكان الشيخ عضواً في المجمع الفقهي الإسلامي وعضواً في رابطة العالم الإسلامي وعضواً في موسم الحج، وبالنسبة لانتاجية الشيخ وتأليفه فهي متناثرة بين الدروس والشروحات والتعليقات التي تحفل بها مجالسه في الحرم المكي الشريف وبين المحاضرات والبحوث التي يلقيها في المؤتمرات العالمية وهذا إن شاء الله سيجمع في مجلدات وكتب حتى يستفيد منه الناس ويزيد في مكتبتنا الاسلامية لأنه جهد علمي مؤصَّل.
رحل الشيخ وبرحيله سطرنا حروفاً كثيرة ونثرنا دموعاً كثيرة حزناً وبكينا حتى أجهشنا.. لا على موته فالموت حق {كٍلٍَ نّفًسُ ذّائٌقّةٍ المّوًتٌ} ولكن على علمه وعلى ينبوع الدروس الذي يتدفق بين جنيات الحرم على الصوت الهادئ الندى المزّين باللهجة القصيمية المبسطة التي تطل علينا من بين سواري الحرم الشريف.. غاب الشيخ وغاب معه كل هذا فلم يبق لنا سوى هذا «المنتج» ولم يذهب معه إلا بما قدّم.
نسأل الله العلي العظيم أن يسكنه فسيح جناته وأن ينفع بعلمه أمته المسلمة وأن يجبر عزاءنا بفقده وأن يصبرنا على مصيبتنا.
{إنَّا لٌلَّهٌ وإنَّا إلّيًهٌ رّاجٌعٍونّ}.
(*) «سيرة الشيخ الذاتية» نقلت من موقع الإسلام اليوم، بتصرف.
|