أزمان طويلةٌ مرَّت بهذه البقاع الطاهرة، وجموعٌ غفيرة تنقَّلتْ بين المسجد الحرام ومنى وعرفات ومزدلفة، رفعت أيديها إلى السماء تناجي خالق الكون مناجاة التائب الخائف المنيب، إنها مواقف وعبر، وآلافُ الأحداث والصُّوَر، تجري في هذه الأرض المباركة، ولو أن جبالها ورمالها تنطق لتحدَّثت إلى الناس بما يبهر العقول، ويُشجي القلوب.
قال الأصمعي: حَجَجْتُ فرأيت أعرابياً يطوف بالكعبة ويقول: يا خبر موفودٍ إليه سعى إليه الوفد، قد ضَعُفَتْ قوَّتي، وذهبت سُنَّتي، وأتيت إليك بذنوبٍ لا تغسلها الأنهار، ولا تحملها البحار، أستجير برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، ثم وضع على حَلَقة باب الكعبة خدَّه وقال: ضَرَع لك خدّي، وذلَّ مقامي بين يديك، وأنشد:
عظيمُ الذنبِ مكروبُ
من الخيراتِ مسلوبُ
وقد أصبحتُ ذا فقرٍ
وما عندك مطلوبُ
|
وقال العُتبىُّ: سمعتُ رجلاً عشيَّةَ عرفةَ يقول: اللهم إنَّ هذه عشيَّةٌ من عشايا محبتك، وأحد أيام زُلْفتك، يأمل فيها مَنْ لجأ إليك من خلقك، لا يشرك بك شيئاً، بكل لسانٍ فيها تُدْعَى، ولكلِّ خيرٍ فيها تُرجى، أتتك العُصاةُ من البلد السَّحيق، ودعَتْك العُنَاةُ من شُعَبِ المضيق، رجاءَ مالا خُلْفَ له من وعدك، ولا انقطاع له من جزيل عطائك، أبدتْ لك وجوهها المَصُونة، صابرة على لَفْح السَّمائم، وبَرْد الليالي، ترجو بذلك رضوانَك يا غفَّار، يا مُسْتزاداً من نِعمه ومُسْتعاذاً من كلِّ نِقَمة، ارحم صوتَ حزينٍ دعاك بزفيرٍ وشهيق.
ثم بسط يديه إلى السماء وقال: اللهم إنْ كنتُ بسطت يديَّ إليك راغبا، فطالما كُفيتُ ساهياً بنعمك التي تظاهرتْ عليَّ عند الغفلة، فلا أيأس منها عند التوبة، فلا تقطع رجائي منك لما قدَّمتُ من اقتراف، وهبْ لي الصَّلاحَ في الولد، والأَمْنَ في البلد، والعافيةَ في الجسد، إنك سميع مجيب.
هكذا تتوجَّه القلوب إلى ربِّها العظيم، في هذا الموسم الكبير، وعلى صعيد هذه المشاعر الطاهرة، حيث تُزهر الآمال، وتشرق شمسُ الرجاء، حيث تنطوي أمامها غياهب اليأس، وحنادس الأوهام.
قال طاووس: بينما أنا بمكة إذْ بلغني أنَّ الحجّاج بن يوسف الثقفي يريدني فرُفِعْتُ إليه، فلما دخلت عليه ثنى لي وساداً فجلستُ، فبينما نحن نتحدَّث إذْ بلغنا صوت أعرابيٍّ في الوادي رافعاً صوته بالتلبية، فقال الحجَّاج: عليَّ بالمُلبِّي، فأُتيَ به، فقال: ممن الرَّجُل؟، قال: من أفناء الناس، قال الحجاج: ليس عن هذا سألتُك، قال الأعرابي، فعن أيِّ شيء تسألني؟، قال: من أيِّ البُلدان أنت؟، قال: من أهل اليمن، قال له الحجاج: فكيف خلَّفت فيها محمد بن يوسف؟ «يَعني أخاه الذي كان والياً على اليمن»، قال الأعرابي: خلَّفتهُ جسيماً خَرَّاجاً ولاَّجاً، قال الحجاج: إنما أقصد سيرتَه في الناس، قال: خلَّفتُه ظَلوماً غَشوماً عاصياً للخالق مطيعاً للمخلوق، فغضب الحجاج وقال: ما أقدمك على هذا القول، وقد تَعلَم مكانَه مني؟، قال له الأعرابي: يا حجَّاج أَفتراه بمكانه منك أَعزَّ مني بمكاني من الله تبارك وتعالى؟، وأنا وافدٌ بيتَه، وقاضٍِ دينَه، ومصدِّقٌ نبيَّه صلى الله عليه وسلم؟
قال: فوجم الحجَّاج بن يوسف ولم يَحُرْ له جواباً، وظلَّ صامتاً حتى خرج الرجل من مجلسه بدون إذن.
نعم.. في هذه البقاع الطاهرة، وفي أيام الحجِّ الأكبر الناسُ ضيوف الله، المقبلون إليه، المتعلِّقون به، المؤمِّلون في عفوه ومغفرته.
إشارة:
إذا لم أستجرْ بكَ يا إلهي
فَمْن عوني سواك ومَنْ مُجيري
الأمير نايف يلقي كلمته
ويستقبل قيادات أمن الحج
|
|