* في القرن الحادي والعشرين أصبحت القنبلة النووية كلمة السر في قوة الدول ومكانتها، وبغض النظر عن مدى الشر الذي يمثله نظام الحكم الذي يستحوذ عليها أو خروجه عن الشرعية الدولية فإن امتلاكه لهذه القنبلة يضمن له الاحترام، وعندما تمتلك دولة ما هذه القنبلة يجب الانتباه إليها.
لنعقد مقارنة بين طريقة تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع كيم جونج إيل الرئيس الديكتاتوري الستاليني الذي يجوع ملايين من أبناء دولة كوريا الشمالية التي يحكمها، وبين تعاملها مع صدام حسين الذي قصف عدة آلاف بالغازات السامة. فكيم جونج إيل لديه برنامج سري لتخصيب اليورانيوم ولديه مفاعل نووي ومصنع معالجة لاستخلاص البلوتنيوم، وقد قام الرئيس الكوري الشمالي بطرد المفتشين الدوليين من بلاده ويهدد بتحويل كوريا الجنوبية إلى بحر من النيران.
أما صدام حسين فإنه لا يمتلك أي مواد خطيرة ولا مفاعلات نووية ولا قنابل ذرية كما دعا المفتشين الدوليين للتأكد من خلو بلاده من كل الأسلحة المحظورة، فماذا حدث مع الرجلين؟.
يجيب ماروين دود في مقال له قائلا إن كيم فاز بسلة فاكهة مكافأة له في حين صدام حسين تعرض للقصف بصواريخ توما هوك الأمريكية، فلماذا هذه الازدواجية؟ السبب أن أمريكا تشك في إمكانية امتلاك كيم قنبلة ذرية أما صدام فهي متأكدة أنه لا يمتلك شيئاً، إذاً فامتلاك قنبلة نووية يضمن لك ابتعاد الولايات المتحدة الأمريكية عن طريقك لأسباب مهمة.
ففي الخمسينيات من القرن الماضي كانت «الصين الحمراء» كما كان يحلو لأمريكا ان تطلق على الصين الشيوعية تعيش في عزلة دولية بسبب رغبة أمريكا في ذلك، بل إن المقعد الدائم الذي كان للصين العظمى في مجلس الأمن الدولي كانت أمريكا تعطيه لجزيرة تايوان التي انفصلت عن الصين الأم وكونت دولة تحمل اسم الصين أيضا في أعقاب الثورة الشيوعية في الصين عام 1949، وفي عام 1953 هدد الرئيس الأمريكي إيزنهاور بأنه إذا لم تقبل بكين بالهدنة فسوف يقصف القوات الصينية الموجودة في شبه الجزيرة الكورية أثناء الحرب الكورية التي كانت تشارك فيها قوات الصين إلى جانب قوات كوريا الشمالية ضد القوات الأمريكية التي كانت تقاتل إلى جانب قوات كوريا الجنوبية.
وهنا أدرك الزعيم الصيني أن بلاده لن تستطيع الحياة بين الكبار بدون الحصول على قدرات نووية رادعة وبالفعل بدأ الصينيون برنامجا للحصول على السلاح النووي.
وفي عام 1964 أجرت الصين أول تجربة نووية ناجحة لها، و خلال عشر سنوات استردت الصين مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي واضطر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، الذي كان عدوا قديما للدولة الشيوعية، إلى الذهاب للصين لتقديم احترامه إلى الرجل الذي يحكم هذه الدولة، وعلى الفور حصلت الصين على قروض من البنك الدولي وخضعت لرعاية منظمة التجارة العالمية قبل أن تنضم إليها رسميا أواخر عام 2001 ووصلت أخيرا إلى تحقيق فائض تجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية قدره مائة مليار دولار سنويا تقريبا وأصبحت منذ سنوات تتمتع بوضع الدولة الأولى بالرعاية لدى أمريكا على الرغم مما تردده أمريكا باستمرارعن انتهاكات الصين لحقوق الإنسان وعدائها للديموقراطية ومساعدتها في قتل أكثر من 33 ألف جندي أمريكي أثناء الحرب الكورية.
ثم نأتي إلى واحد من ألد أعداء أمريكا وهو الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، فهذا الرجل لم يساعد في قتل 33 ألف جندي أمريكي في كوريا فحسب ولكنه أعدم عدة آلاف من الكوبيين وعلى عكس الرئيس الصيني ماوتسي تونج ففيدل كاسترو لم ينتهك حقوق ملايين المواطنين، وعلى الرغم من أن سجل كوبا في مجال حقوق الإنسان ليس ناصعا لكنه ليس سيئا بنفس درجة السجل الصيني على الإطلاق، ومع ذلك لم يتمكن فيدل كاسترو من رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على بلاده منذ أكثر من أربعين عاما في حين أن الصين تصدر أكثر من عشر انتاجها القومي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن إذا ما قام فيدل بإجراء تجربة نووية فسنجد أن الإدارة الأمريكية ستسارع بالإعلان عن تطبيق سياسة «الشمس المشرقة» مع كوبا، وهذا المصطلح يعود إلى الرئيس الكوري الجنوبي السابق الذي أعلن عما يسمى بسياسة الشمس المشرقة للتقارب مع كوريا الشمالية منذ عام 1994 التي حصلت بمقتضاها بيونج يانج على مساعدات اقتصادية هائلة من كوريا الجنوبية والحكومة الأمريكية، إذاً فالتاريخ يعلمنا أنه عندما تحصل دولة مارقة على القنبلة النووية فإنها تحصل على الاحترام العالمي، ولما كان الرئيس السوفيتي الأسبق نيكيتا خورتشوف يمتلك القنابل الذرية والصواريخ التي يمكن حملها لضرب أهداف في عمق الولايات المتحدة فإن الرئيس الأمريكي داويت إيزنهاور الذي هدد بكين باستخدام القنبلة النووية ضدها إذا لم تقبل بالهدنة في كوريا لم يقم حتى بقطع العلاقات مع موسكو التي قامت قواتها بقمع الثورة المجرية عام 1956، واكتفى وزير خارجية إيزنهاور في ذلك الوقت جون فوستر دالاس بالقول بان موسكو تخلت عن «روح كامب ديفيد» بعدما اقتحمت قواتها العاصمة المجرية بودابست، والآن أيضا نجد أن الرئيس الأمريكي جورج بوش نقل حديثه من «تغيير أنظمة الحكم» في دول محور الشر وبينها كوريا الشمالية ليتحدث عن مساعدات غذائية وإمدادات وقود لحكومة كيم جونج إيل الذي قد يكون لديه قنبلة نووية.
إذاً فإدراك أن عدواً ما يمكن أن يقتلك يقلل كثيرا من حدة رد الفعل والتعامل مع الشكوك بدرجة حذرة، كما ان انتشار الأسلحة النووية في الكثير من دول العالم سوف يؤدي إلى القضاء على الامبراطوريات الكبرى وفي مقدمتها الامبراطورية الأمريكية، فقد تحولت القوات الأمريكية الموجودة في كوريا الجنوبية حاليا ويصل عددها إلى 37 ألف جندي تقريبا من قوات احتلال إلى رهائن الأسلحة الكورية الشمالية التي تهدد بإبادتهم، بل إن هناك أصواتاً جديدة تطالب حاليا بضرورة سحب هذه القوات، ويبدو أن شمس الامبراطورية الأمريكية في آسيا التي بدأت عام 1898 دخلت مرحلة المغيب، وكلمة السر في هذا الغروب هي «يونجبون» وهو اسم المفاعل النووي الكوري الشمالي الذي يمكنه انتاج اليورانيوم اللازم لإنتاج القنبلة الذرية، يدعو عضو مجلس الشيوخ الأمريكي والمرشح السابق في انتخابات الرئاسة الأمريكية جون ماكين إلى ضرورة المواجهة والحرب إذا لزم الأمر مع نظام كيم جونج إيل لأن الأسلحة الكورية الشمالية تقيد «قدرتنا على تشكيل النظام العالمي»، والحقيقة أن ماكين على صواب خاصة في النقطة الأخيرة، فعندما تنجح إيران أو أي دولة عربية في إنتاج قنبلة نووية فإن الامبراطورية الأمريكية التي يجري بناؤها في الشرق الأوسط سوف تنتهي، ولهذا لا عجب أن يدعو رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون الولايات المتحدة إلى ضرورة الهجوم على طهران في اليوم التالي لدخول القوات الأمريكية إلى بغداد، لا جدال في أن القنبلة النووية مرعبة واختراع سيىء جدا، ولكن الولايات المتحدة التي احتكرت هذا السلاح حتى عام 1949 حمت أوروبا الغربية من الوقوع في قبضة السيطرة السوفيتية الستالينية عقب الحرب العالمية الثانية، كما أن امتلاك كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي للقدرات النووية منع الجانبين من الدخول في حرب مدمرة سواء في أوروبا أو في منطقة الكاريبي بأمريكا اللاتينية أثناء أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، والحقيقة أنه باستثناء المواجهة الحدودية بين الصين والاتحاد السوفيتي عام 1969 وسقوط 39 صاروخ سكود عراقي على إسرائيل أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991 لم تتعرض أي دولة نووية للغزو أو للهجوم من أي طرف آخر، وهذه الحقيقة تعلمها كل الدول الأعضاء في محور الشر أو المرشحة للانضمام إليه بناء على رؤية أمريكا التي صكت هذا المصطلح، فهذه الدول ترى اسلوبين منفصلين في تعامل الأمريكيين مع أعدائهم على أساس امتلاك هؤلاء الأعداء أسلحة نووية أو عدم امتلاكهم لها.
وهنا يمكن القول بان حديث الرئيس بوش عن الحروب الوقائية والضربات الإجهاضية ستكون محفزا لانتشار الأسلحة النووية كما كان نبأ قصف أمريكا لمدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة النووية الحافز الأساسي للرئيس السوفيتي جوزيف ستالين في ذلك الوقت إلى ضرورة امتلاك بلاده ترسانة نووية.
(*) المصدر: «أمريكان كونسرفيتف»
خدمة الجزيرة الصحفية
|