كثيراً ما يهرب الإنسان بمعاناته من حكم الواقع، إلى عالم الخيال والفرضيات، التي لا تحكمها قيود أو قوى، ليتهيأ له اطلاق عنان الحرية لأوهام تقلب هزيمته الأكيدة في الواقع، إلى انتصار كاذب في عالم المتخيل، على قوى.. تحكم دنياه في محيط عالمه الرسمي، ولكن حين يستيقظ من أوهام أحلامه الافتراضية، وجب عليه مواجهة صرامة الواقع وسلطاته، وصار عليه، ان يستدعي مفردات وعبارات النموذج الرسمي.. فأساليب التمويه في الخطاب أمام السلطة «فن» يلزم على الإنسان اتقانه، في سبيل تمرير مطالبه من أبيه المستبد أو مديره المتسلط أو أي صورة أخرى من صور السلطة التي تحكم واقعه في زمن اليقظة، ولا يزال قول الحقيقة أمام السلطة، حتى في زمن الديمقراطية الحديثة، يحمل نفحة طوباوية، ومثالية يصعب قبولها كنموذج في منهج العلاقات العامة.
وسلطة الأشكال الاجتماعية التي تتجسد في ضروب اللياقة والتهذيب تفرض على البعض أحياناً ان يضحي بما لديه من صراحة الحكم، لصالح علاقات لبقة مع الآخر، وهو ما يعزز صحة القول الشهير لجورج أليوت «ليس ثمة فعل ممكن، من دون شيء من التمثيل»، وانه من مصلحة الطرفين أحيانا ان يتنازلا ضمنيا للوصول إلى ذلك التمويه الضروري، وقصة الفرنسي تيانون، والتي اشتهرت طوال القرن التاسع عشر، حافلة بشتى ضروب التفاصيل حول التعابير الحذرة والمخادعة الكاذبة، وذلك عندما قرر التحدث مع صاحب الأرض الذي طرد والده من مزرعته، و«ان يجر نفسه على ان يبدو ودوداً معه، على الرغم من الاحتقار الذي يكنه له».. والكلام والحيل اللغوية من وسائل التنكر، واطالة الكلام وتشويه عباراته إلى حد كاف، يختبئ عادة وراءها الضعفاء، فالميل إلى الابتعاد عن الأساليب المباشرة في الخطاب منهج عملي في لغة الخطاب المضاد، أما الأقوياء فلهم فقط ان يقصروا الخطاب، ويختصرونه. والخطاب المستتر يظهر في الهامش، ويزدهر في حيزه الضيق، بعيدا عن الرقابة والسيطرة أو القمع، ويكون الفسحة الاجتماعية التي يحدث فيها الرد الذي لم يُلفظ، والغضب الذي لم يفرج عنه، والميدان الفسيح لحديث الألسنة المقموعة.
والمقولة الفلسفية الشهيرة لكانط عن كبت الاستبداد لملكة حرية التفكير فقدت صحة تطبيقاتها تماما في عصر الانترنت والثورة المعلوماتية، فلم يعد «منع الإنسان من حرية توصيل أفكاره بشكل علني، يحرمه من حرية التفكير».. ومن العبث ان نسلم انه بلا رأي، وهل ثمة مخلوق قادر على التفكير لا رأي له، وتلك اشكالية، ربما لا يرغب صاحب السلطة في أي مؤسسة هرمية مواجهتها.. وقد يسعى الإنسان بمشاعره للوصول إلى نوع من التوازن، من خلال معادلة ثقل السوء الذي يرهق كاهله بوزن الحقد الذي يحمله.
والانقلاب الرمزي في الحكايات الشعبية إحدى وسائل المواجهة أو مقاومة ثقافة الهامش لسلطة خطاب القوة، فمثلاً في القرن السادس عشر، وخلال عصور الرق في أوروبا، انتشرت الصور والقصص، التي تحكي رمزاً مقاومة الارقاء لأسيادهم، وتدعو من خلالها إلى انقلاب جميع العلاقات الرسمية، فالفئران في تلك الروايات الشعبية، أصبحت تأكل القطط، والعربة تجر الجياد، والأرنب يخيف الصياد، والثور يذبح الجزار، والفقير يحسن للغني، والسمكة تطير في الهواء!..
ولو سلمنا بصحة تأثر العقل بالثقافة الشعبية ورموزها، لربما استطعنا تفسير ظاهرة انفجار ثقافة الهامش المحلية في عالم الإنترنت الافتراضي، فالأساطير الشعبية في مجموعة الجهيمان الرائعة، حافلة «بسوالف» الساحر وأبو سالم، والوحش قاط، والجذع الذي يطير بالساحرتين، وعجوز الجن المتصابية، وسالفة مزنة مع العفريت ذي الرؤوس الستة، ولعل ما تركته تلك الثقافة المحلية في ذهنية السلوك الفردي، ظهرت على شاشة الواقع الافتراضي، تعج بالعفاريت ذات الأسماء العشرة، والعشرين، ينشرون ثقافتهم التي تراكمت في الهامش، ويطرحون خطابهم المستتر أياً كانت هويته، على صفحات الشبكة العنكبوتية.
والهامش الحقيقي الذي، كان يتحرك خفية من وراء واقع السلطة الرسمي، سواء كانت دينية أو سياسية أو إدارية، ويستتر وراء حجب نماذج الخطاب الرسمي وعوازلها، وعبر تمويه اللغة الذكي، ومن خلال رموزه التراثية، فتحت له أيضاً تقنية المعلومات، ووسيلة الإنترنت»، نافذة، يطل منها على عالم مفترض، بلا هوية، ولا تحكمه قيود أخلاقية أو سياسية، ليطلق فيه عنان أفكاره، دون الاكتراث بماهية قيمتها الايجابية أو السلبية، أو الخشية من مدى تأثيراتها السلبية، لتزدهر، وتنتقل من هامش قاع هرم السلطة الاجتماعية إلى أفق يتفوق في صرامة خطابه المضاد، لخطاب السلطة الاجتماعي والسياسي المعتمد، ولتصبح رافعة خطابي الهامش والرسمي، تتجاذب قواها المعرفية بين واقع الحقيقة، وحقيقة الافتراض.
ولكن بالرغم من نزع الكلمة لحجابها الساتر، وخروجها من دائرة القيد المحافظ، إلى ساحات التمرد من القيم المتفق عليها، ومن سلطة الاخلاق المتوارثة، إلا ان سطوة الواقع الرسمي، لا تزال تهيمن حتى على زوايا الانترنت الهادئة، فالثقافة الهاربة من الواقع الحقيقي، لا يزال منتجها يظلل شخصية العبارة في خطابه، ويلفها بستار عفريتي، ويخفي أدنى ملامح وجهها في العالم الافتراضي، لكنه عن قصد، خلع عن جسدها ما كان يسترها في الواقع، فلم يعد يكسوها، لباس التهذيب والالتزام بروابط المجتمع السلطوية، لتظهر تفاصيل معاني العبارة عارية أمام الجميع، اما فاتنة وجذابة، لمن يعشق سحر تحررها، أو متوحشة وعنيفة، لمن يبحث عن ألمها في لحظة من لحظات تمرده على الواقع.
وصار الرقيب على «الكلمة» في موقف لا يحسد عليه، وفي مأزق تمردها، وانكارها لابوتها الشرعية، وانسلاخها من قيمها، وقيودها المعرفية، وتلك مخاوف مشروعة، ولكن يتحتم عليه ان يدرك بحكمة، قدرة تقنية تكنولوجيا الاتصال اللا محدودة، وعظم تأثير ثورة المعلومات اللا متناهية، وألا يصل به الحال في مستقبل الأيام، إلى حرج موقف رئيس الشرطة الذي سأل يوماً ما عامله: هل كان يعرف القاضي انني ارتدي باروكة؟.. فأجابه العامل، موجهاً حديثه للقاضي والحضور، انه الوحيد الذي لا يعرف، ان الجميع يعرفون!.
|