كل دول المنطقة، فضلاً عن أغلبية كاسحة من شعوب العالم أجمع، حتى أولئك الذين يختلفون مع النظام العراقي، هم ضد الحرب على العراق، كل له أسبابه الخاصة. غير أن هذه الحرب يبدو أنها أصبحت الآن أمراً حتمياً، ولم يبق إلا التنفيذ. اليمين الأمريكي، الذي يحكم أمريكا، وجد في أحداث 11 سبتمبر فرصة مواتية، وأراد أن يستثمرها في مصلحة ايديولوجياته الى أبعد حد ممكن. وهو الآن في وضعٍ لا يستطيع فيه الرجوع عن توجهه نحو الحرب، مهما كانت الاحتجاجات في الداخل، ومهما كانت الاعتراضات العالمية واسعة، ومهما بدت مغامرة الحرب غير مأمونة العواقب إستراتيجياً، فرجوعه يعني ببساطة هزيمته، وسقوطه الحتمي، ولا سيما ان أوضاع أمريكا الاقتصادية الداخلية هي اليوم في أسوأ حالاتها، وتراجع بوش عن قرار الحرب، في ظل وضع اقتصادي داخلي متراجع، يعني خسارة فادحة ليس للإدارة الأمريكية الحالية فحسب، وإنما خسارة لليمين الأمريكي، المتمثل في الحزب الجمهوري بكل ألوان طيفه، معتدليه ومتطرفيه على السواء.
وفيما عدا بريطانيا واسرائيل، فان جميع دول وشعوب العالم ستجد أن «تورط» امريكا في العراق، عندما تنشب الحرب، فيه مصلحة استراتيجية لها، ستنعكس آثارها على أمريكا نفسها بكل تأكيد، بما سيحد من غلواء تطرفها، وتسلطها، واندفاعها للسيطرة على العالم، وفرض الهيمنة الأمريكية على توجهاته السياسية، ابتداءً من الصين وبقية الدول الآسيوية، ومروراً بكل دول افريقيا وأمريكا اللاتينية، وانتهاءً بكل دول وشعوب أوروبا، كما تقول كل المؤشرات واستطلاعات الرأي.
أما اذا نجحت الادارة الأمريكية الحالية في حربها في العراق، ومرت الحرب مرور الكرام، وحققت أهدافها، وفي وقت قصير، وبقدر قليل من الخسائر، فأخشى ما يخشاه العالم أن يكرس اليمين الأمريكي المنتصر مفهوماً أن العالم أصبح «امبراطورية» أمريكية، وأن الذراع العسكرية الأمريكية ستصل، كما وصلت في العراق، الى كل متمرد يقول: لا في وجه الهيمنة الأمريكية.
ولعل قرار حلف النيتو الأخير، الذي رفض دعم تركيا فيما لو تعرضت لاعتداء نتيجة للحرب الأمريكية المزمع شنها من أراضيها، يصبُ في اتجاه تضييق هامش المناورة أمام الاندفاع الأمريكي وكبح جماح غلوائه، كما يؤكد أيضاً مدى تخوف العالم من العنجهية الأمريكية، وفي الوقت ذاته يُحاول أن يُقلل من قدرة أمريكا بعد الحرب على الانفراد بالمنطقة، وتشكيلها سياسياً، وبالقوة، حسب المصالح الأمريكية. فمثلما أن هناك مصالح أمريكية في المنطقة، هناك مصالح أوروبية أيضاً، ولا يُمكن في نهاية المطاف أن يسمح الأوروبيون للأمريكيين بتوجيه المنطقة منفردين حسب مصالحهم دون أي اعتبار للمصالح الأوروبية. طبعا قرار النيتو الأخير لن يمنع الحرب، ولكنه سيقلل من قدرة الأمريكيين بعد الحرب على الانفراد بالمنطقة. واذا أضفنا الى موقف دول حلف النيتو، وبالذات مواقف فرنسا وألمانيا وبلجيكا، الموقفين الروسي والصيني، الرافضين للحرب، والنابعين من تخوف تلك الدولتين على مصالحهما في المنطقة، نستطيع ان نستشرف الى حد كبير مدى العوائق التي ستواجهها أمريكا في المنطقة بعد الحرب، وهي مواقف يمكن أن تؤخذ على أنها رد قوي على ما قاله وزير الخارجية الأمريكي أمام الكونجرس قبل أيام، والذي اعترف بأن هدف الحرب على العراق ليس فقط تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، وإنما اعادة تشكيل المنطقة أيضا بما يخدم المصالح الأمريكية في نهاية المطاف.
وفي تقديري أن تبعات وانعكاسات ما بعد الحرب على الساحة السياسية العالمية، ستعيد على ما يبدو أجواء أشبه ما تكون بأجواء الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين قبل تفكك الاتحاد السوفيتي. فأمريكا اليوم تريد من دول أوروبا «الجديدة»، كما لمح وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، أن تكون مجرد كواكب باهتة تدور حول الشمس الساطعة الأمريكية لا أكثر. ولعلَّ الأوروبيين يختلفون على كل شيء، ولكنهم يتفقون على رفض الهيمنة الأمريكية، وسيطرة راعي البقر الأمريكي على العالم، وعلى القرار السياسي لدولهم.
|