هل يملك أطفالنا قدرة عقلية على التمييز بين الحقيقة والوهم؟ وكيف يدركون الفرق بين ما يقولونه وما يفعلونه؟ فإن الكثير من الوالدين ينصرفون عن التمعن في هذه المسائل بحجة أن أولادهم متقدمون على سنهم، ولو سمعت كل أم على انفراد لم تلبث طويلا حتى تقول: كل الأولاد عباقرة من الطراز الأول بلا جدال!
مع أن العلم أثبت أن لدى الطفل مهما كان ذكاؤه وكائنا ما كانت نباهته، موطن ضعف خطير يسميه علماء النفس «العجز عن الانتقاد» أي أن الطفل يعجز عن انتقاد أعماله الخاصة وأعمال غيره أيضا وهو أميل الى تصديق كل ما يقال له من غير أعمال الروية فيما يسمعه والتمحيص والتحليل بحسب المنطق.
فإذا طرح سؤالا عن كذا وكذا وكان الجواب: «لأن المسألة كذا وكذا» صدق من غير عناء، وعلى قدر ما يكثر من طرح الأسئلة، يسرع الى تصديق الأجوبة على علاتها، وقد حكى عالم النفس الفرنسي جورج دوهاميل نادرة عن ابنه الذي ظل يسأله مدة ساعة: ولماذا يقال كذا ويفعل كذا ولماذا لا يكون كذا الخ.. حتى أن والده زهقت روحه من أسئلة الطفل فأجابه أخيراً: لا أعرف فعاد الطفل وسأله: ولماذا لا تعرف؟
وقال العالم أن ابنه لم يكن يتوقف لحظة واحدة للتمعن في الأجوبة بل كان لا يكاد يسمع الجواب حتى ينتقل الى سؤال آخر.
الذاكرة تعوض عن الذكاء
وإن كان عقل الطفل يعجز عن أعمال الانتقاد والتمحيص حتى سن الثانية عشرة في رأي علماء النفس، إلا أن له ذاكرة عجيبة قد تعوض عن الذكاء، وخير ما شبهوا به الطفل في هذه المرحلة من العمر انه يشبه الشيخ الهرم الطاعن في السن بعد مرحلة التسعين.
ومن خصائص ذاكرة الطفل انها لا تحفظ الأشياء بسرعة ولكن الحفظ أدوم من ذاكرة البالغ، مما يشوش ذاكرته ويجعلها بطيئة الحفظ، أما إذا وعت شيئا ما بعد التكرار فإنها تكاد تحفظه الى سن الشيخوخة فبديهي ان ذاكرة الطفل تشبه الوعاء الفارغ على عكس ذاكرة البالغين فهي مشحونة بشتى الأمور ولذلك كثيرا ما تنصب فيها المكتسبات الجديدة كما ينصب الماء في كأس فائضة فيتدفق عنها إلى الأرض جزافا.
وان كان علماء النفس يلفتون انتباه الوالدين الى هذه الميزات الخاصة بطبيعة الطفل فإنما يفعلون ذلك لتسهيل أساليب التربية عليهم، ونصيحتهم الى الوالدين ان ينزلوا الطفل بمنزلة البالغ وأن يفسروا له علة الأشياء الحقيقية كلما انهال عليهم بالأسئلة، ولا يجوز ان يقتصروا على أجوبة مختصرة لا تصور الحقيقة، والأفضل أن يردوا بالتفصيل على سؤال واحد بدلا من أن يردوا على عشرين سؤالاً بأساليب مختصرة غامضة.
وهكذا تنشأ في نفس الطفل منذ نعومة الأظفار ملكة النقد والتمييز فيشب على المنطق وحب الاستقصاء فلا يكتفي حينئذ من الامور بالقشرة السطحية بل يصبح مولعا باستخلاص اللب ومعرفة جواهر الأشياء مثلما كان يفعل بعض جهابذة الفكر وهم أحداث، وأبرزهم ابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس فيحكى أنه لما كان حدثا، كان كثيراً ما يبكي إذا استبهم عليه أمر من الأمور ولم يعرف علل بعض الأشياء في تأملاته الفكرية، ولا يسكن خاطره إلا بعد معرفة الأسباب والمسببات.
ونحن لا نعني أن كل الاطفال ينبغي أن يكونوا عباقرة مثل ابن سينا، وإنما نعني أنه يحسن بالوالدين أن يعودوا أولادهم على حب المعرفة الصحيحة.
عثمان الصالح
|