حباني الله بمنه وكرمه أن أقوم مع أسرتي بأداء حج هذا العام، وقد كان مشهداً من أعظم المشاهد التي يمكن للمرء أن يراها في حياته، مشهداً حياً لجموع من المسلمين الذين قدموا وقد حملوا في قلوبهم شعلاً إيمانية، وعزماً قوياً على التطهر من الخطايا، والتوجه إلى البارئ عز وجل بطلب الغفران، مؤكدين رغبتهم في التوبة مما قد شاب سلوكهم فيما مضى، وكيف لا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وكيف لا والحاج الذي لم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه.
هذا الجمع الكريم متعدد اللغات والأعراق يلهجون بدعاء واحد، ويلبسون لباساً متماثلاً، ويتنقلون من مكان إلى مكان في زمن محدد، ويمارسون عباداتهم في تلك الأماكن وفي نفس الأوقات راجين أن يقبل الله منهم.
هذا الجمع المؤمن يحتاج إلى الكثير من الخدمات الصحية والمعيشية والأمنية وغيرها، وقد توفرت لهم بحمد الله هذه الخدمات، فكانت سيارات الإسعاف في كل مكان، في منى وعرفات ومزدلفة ومكة المكرمة، أما المواد الغذائية فهي متوفرة بشكل يغطي ويزيد عن حاجة الحجيج، وبكل ما لذ وطاب من أنواع الأطعمة والفواكه والمشروبات، كما أن رجال الأمن منتشرون في كل مكان للمساعدة في توجيه الحجيج.
لقد كانت المشاهد رائعة، وهذه الأمواج البشرية تموج بهدوء في ذهابها وإيابها، فكان منظراً إيمانياً رائعاً.
والحاج الذي ينظر بإمعان إلى بعض ما قد يلوح له من اجتهادات بعض الحجيج يخرج بحصيلة لا بأس بها، تبقى في ذاكرته برهة من الزمن، فقد لاحظت أحد الحجاج الذين كانوا بصحبتنا في حملتنا الكريمة، قد أجهش بالبكاء والنحيب على صعيد عرفات عندما سمع الواعظ يذكر الحضور بشيء من أمور دينهم، ثم لاحظت الرجل ذاته، بعد انتهاء الصلاة والوعظ، وقد أخذ مكاناً منفرداً وأطال مناجاة ربه ساجداً وقاعداً وواقفاً، لم يفوت من تلك الساعات العظيمة شيئاً، هذا الرجل أحسبه والله حسيبه، قد توجه إلى بارئه بقلب صادق مؤمن فهنيئاً له بما كسب، ولا أشك أن مثله كثير.
وفي ملاحظة أخرى أحببت إيرادها في هذه العجالة، كنّا في مزدلفة فإذا بأكبر أبنائي قد جاء إلي ويده بيد شيخ كبير السن من مواطني الصين، وقال لي ابني أنني لا أعرف ما يقول هذا الشيخ لكنّه فيما يبدو يطلب المساعدة، وطالما أن لديك شيئاً من لغة أهل الصين فلعلك تساعده، فقلت سبحان الله ما أعظمك، رجل من أهل الصين يترك ملايين الحجيج ليختار ابن سفير المملكة لدى الصين طالباً المساعدة. دعوة من دعواته الصادقة قد استجيبت. لقد تحدثت معه بما أستطيع، وبما تمكنني به لغتي المحدودة، ثم نظرت إلى بطاقته، وحاولت الاتصال بالأرقام المكتوبة، فلم أجد من مجيب سوى رقم واحد أجاب المجيب أن هذا الرقم للشرطة وليس لحملة معينة.
أمضيت وقتاً طويلاً مع هذا الشيخ أبحث عن أصحابه فلم أستطع، ثم رأيت أن من المفيد أن أحاول الحصول على رقم المؤسسة المسؤولة عنه، والمكتوب اسمها على البطاقة، فاتصلت برقم الاتصالات، سألتهم عن هواتف المؤسسة فأعطوني مشكورين رقماً اتصلت به فأجاب أحد مسؤولي المؤسسة المسؤولة عن هذا الحاج، وأبلغته برقمه المسلسل ورقم جواز سفره واسمه فذكر المسؤول عن المؤسسة أن هذا الشيخ تابع لحملتهم ورقمه غير الرقم المكتوب على البطاقة وطلبت منهم أن يرسلوا لنا أحداً للمساعدة، وحددت لهم مكاني وعاودت الاتصال، ولكن ومع الأسف فلم أجد منهم ما كان مؤملاً عفا الله عنهم.
أما صاحبي الصيني فقد بقى معي، وقلت له لا يمكنك مفارقتي حتى أحلَّ لك مشكلتك، وأعطيه رقم الحملة الصحيح، كما حاولت أن أعطيه شيئاً من المال فأبى، وحاولت أن أعطيه طعاماً فأبى، لكنّه أخذ شربة ماء على استحياء، وفي النهاية فقد وفقنا الله على حلّ مشكلته.
وموقف آخر لا يخلو من الطرافة، فقد كنت سائراً على جسر الجمرات، فرأيت امرأة ترجم الجمرات الصغرى، بعد صلاة عشاء يوم العيد بما يخالف المتبع، رغم مطالبة رجل الأمن لها بعدم فعل ذلك.
ورأيت رجلاً آخر، وقد عاد من رمي الجمرة الكبرى وعندما مرّ بالجمرة الصغرى. قال: «إستنّ علي لبكره، أنا راجع وحتشوف أعمل فيك إيه» هذه المواقف، وغيرها كثير تبقى في الذاكرة لندرتها، وطرافة بعضها.
وكل ما ذكر يدل دلالة تامة على ما تحمله قلوب المؤمنين الصادقين من نور، ينعكس على تصرفاتهم، وكل هذا ولا ريب يصبُ في صالح الإسلام والمسلمين، والإسلام يصب في خدمة البشرية جمعاء، لأنه دين المحبة والسلام ومكارم الأخلاق، والبعد عن الخنا.
نرجو من العلي القدير أن يكون حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً لكل حجاج بيت الله، وأن يعودوا سالمين غانمين إلى ديارهم وألا يحرمنا وإياهم من عفوه ومنه وكرمه إنه سميع مجيب.
|