يشهد تاريخنا المعاصر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي صانعة للأعداء بدرجة متفوقة منذ مطلع القرن الماضي، وتفوقت أكثر في المرحلة الراهنة بعد اضمحلال وتفتت الاتحاد السوفيتي الذي كان العدو الممتاز لأمريكا، ثم جاءت الحالة العراقية منذ بداية التسعينيات لتأخذ دور عدو الولايات المتحدة الوهمي الذي يجب القضاء عليه، تارة بتضخيم قوته العسكرية بأنها الجيش الرابع في العالم، وتارة بالحرص على البشرية جمعاء من خطر أسلحة التدمير الشامل التي يمتلكها العراق.
مرة بالخوف من الخطر العراقي على جيرانه بما فيها إسرائيل، ومرة أخرى بالبكاء على ما وصل إليه أهل العراق وشعب العراق على يد النظام الحاكم المتمثل في شخص صدام حسين فقط!!
«ألم تخرج علينا الأم مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون وهي تذرف دموع التماسيح على أطفال العراق على شاشات التلفزيون لتعلن بكل وقاحة أنها أحن على أطفال العراق من أمهاتهم!!».
كيف استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تصنع من العراق هذا العدو الجبار الذي يجب على المجتمع الدولي بصفة عامة والعربي بصفة خاصة القضاء على أطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه حتى يتم التخلص من شروره؟
إنه الذبح على الطريقة الأمريكية!!..
هل يجب على المرء أن يكون خبيراً في الشؤون الاستراتيجية ليعرف أن العراق ليس قادراً على إلحاق الموت بنصف سكان واشنطن وقصف أوروبا وحتى القضاء على مدينة كاملة مثل تل أبيب؟
ألم يردد وزير الدفاع الأمريكي السابق وليم كوهين اليهودي الأصل بأن العراق قادر على «تسميم نصف واشنطن»، كما ردد رئيسه بيل كلينتون بأن الصواريخ العراقية «قادرة على بلوغ أوروبا» وأشار إلى أن «التهديد العراقي» ثقيل الوطأة على مجمل الكرة الأرضية!! ووصل الأمر بأن دخل المزاد الرئيس السابق للجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة والمكلفة بنزع سلاح الدمار الشامل العراقي ريتشارد بتلر حيث أعلن أن الأسلحة العراقية قد تقضي على تل أبيب!!
من المعروف ان البشرية عموماً تتمنى أن يكون أعداؤها قلة، غير أن التاريخ يسجل حالات كثيرة يبذل فيها القادة الأقوياء في العالم كل جهد ممكن حتى يكثر أعداؤهم، وإذا لم يتوفر لهم العدو فإنهم يصنعونه!!
لقد استطاعت آلة الإعلام الأمريكية أن تختزل العراق الذي تقول كتب التاريخ الحضاري الأمريكي ذاتها إن هذا البلد يمتلك حضارة تعود إلى أكثر من خمسة آلاف عام في شخص رجل واحد في العالم العربي، واستطاع الخطاب الإعلامي السياسي الأمريكي أن يصور أن هذا البلد هو الشر المطلق في العالم العربي الذي يجب أن يستأصل من جذوره لهناء وسعادة العالم!!
ولكن هل العراق يمتلك كل هذه الأسلحة التي سوغت لراعي البقر الأمريكي أن يذبح أبناءه وأطفاله بالحصار والتجويع والتمزيق وبالعدوان البربري بالطائرات والصواريخ وأخيراً التهديد باحتلاله والاستيلاء على مقدراته؟
إن الحقيقة التي يراها ويؤكدها الخبراء على نقيض هذه الصورة، ومن هؤلاء المستشار الفرنسي في الشؤون الاستراتيجية جان لوي دوفور مدير مجلة ديفنس «الدفاع» الفرنسية، وهو معروف بعدائه الشديد لنظام الحكم في العراق حيث أعلن أن العراق لم يعد قادراً على القيام بأي ردة فعل عسكرية أمام التحركات الأمريكية المسلحة، وأنه عاجز عن إصابة الصواريخ البعيدة المدى، والدفاع العراقي وهمي فحسب، وأضاف الخبير الفرنسي: «وكما تعلم أجهزة الاستخبارات العسكرية الغربية أن مجموع الأسلحة التي يملكها العراق هي حاليا غير شغالة بسبب عدم الصيانة أو عدم توفر قطع الغيار، أو عدم التدريب، وان أمريكا ضربت بلداً أعزل».
ولأن العراق بالضبط هو هذا «العدو الأعزل» فلابد من صناعة أسلحة خطيرة له ولو إعلامياً ووهمياً، وهكذا نشأت أسطورة القوة العراقية التي تهدد الجنس البشري، وأسطورة الجيش العراقي الذي يحتل المرتبة العسكرية الرابعة في ترتيب الجيوش في العالم كله، إنه المبدأ الأمريكي في صناعة العدو وأدوات العداء وتضخيمها حتى التهويل، إنه منطق صناعة الدول الشريرة بل وحتى الشعوب الشريرة التي نسمع هذه الأيام تهديدات الحملة الأمريكية البريطانية للقضاء عليها في معادلة أمريكية تقول إنه كلما كان العدو ضعيفاً ينبغي تعظيم مخاطره على مصالح الولايات المتحدة! لهذا جاءت الحشود الأمريكية والبريطانية هذه الأيام لغزو العراق.
وللحقيقة إنه كلما ضعف موقف الرئيس الأمريكي في الساحة الداخلية الأمريكية، فإن الحاجة الأمريكية إلى حرب خارجية تبدو ضرورية لاظهاره بمظهر القوي!
إنها حروب الرؤساء كما قال وزير العدل الأمريكي السابق رمزي كلارك وهو الذي أقصاه اللوبي الإسرائيلي عن منصبه لأنه تجرأ واعترض على اقتراح طرد مندوب منظمة التحرير الفلسطينية من نيويورك.
يقول كلارك إن حروب الرؤساء تألقت منذ عام 1815م، عندما قال الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون الذي يعد من الرؤساء العظماء إنه: «حان قطف التفاحة الكوبية من الشجرة الإسبانية» وبعد ذلك ضمت الولايات المتحدة إليها ما يعرف بولايتي تكساس وكاليفورنيا بعد أن ألحقت هزيمة عسكرية بالمكسيك، ثم توقفت هذه الحرب الخارجية خلال حرب الانفصال الأهلية لتعود بزخم في نهاية القرن التاسع عشر، وقد كانت ساحاتها بلداناً ضعيفة هي هاواي وكوبا وبورتوريكو وبنما، ثم عادت التدخلات العسكرية الأمريكية مكررة إلى المكسيك وهاييتي عام 1914م، وأعقبتها مساهمات أمريكية في الحربين العالميتين وحروب أخرى «خاصة» بالولايات المتحدة دون سواها، وهي قاعدة جعلت الرؤساء الأمريكيين يتولون أكثر من ثلاثمائة حرب بين كبرى ومتوسطة وصغيرة، ولا فرق يذكر في هذا الشأن بين رئيس شعبي وآخر مثقف، فحتى ثيودور روزفلت المعتبر من أكثر الرؤساء الأمريكيين «تقدمية» لم يتردد في غزو بنما.
إنها ثابتة الحروب في أمريكا والدافع الأيديولوجي لم يتبدل أبداً وخصوصاً منذ مطلع القرن الماضي والتي وصفها روزفلت ب«مسؤولية الولايات المتحدة في مكافحة الفوضى المزمنة» معتبراً «أن تراخي العلاقات في مجتمع ما لا يفترض في أمريكا كما في أي مكان آخر تدخل أمة متحضرة» وقد التزم روزفلت بمبدأ مونرو «رئيس سابق للولايات المتحدة» في ممارسة شرطة دولية في حالات فوضى وعجز مشهودة، والرئيس الأمريكي تافت قال مباشرة: «إن نصف الكرة الأرضية سيكون في الواقع ملكا لنا كما هو حاليا على الصعيد المعنوي وذلك بفضل تفوق جنسنا»، وقد أعلن ذلك عام 1912م!!
ولو رجعنا إلى وضع الرئيس الأمريكي جورج بوش وإصراره على احتلال العراق وتغيير النظام فيه، فإننا نجد أن هذا الرئيس يميل إلى استخدام القياس النسبي أو أوجه التشابه مع أحداث سابقة لوصف التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية ولشرح استراتيجيتها الوقائية الجديدة، ويشير باستمرار إلى الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور الأمريكي في بداية الحرب العالمية الثانية وتدمير الاسطول البحري لأمريكا، وكذلك أزمة الصواريخ الكوبية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي والرئيس السوفيتي نيكيتا خورتشوف، ويشير إليهما للدلالة على خطورة الانتظار وعلى الحكمة التي تنطوي عليها المبادرة بالهجوم على الأعداء قبل ان يتحركوا هم أولاً، ولكن التشبيه المفضل لهذا الرئيس قد يكون في مساواة صدام حسين بهتلر، فالعراق كما تقول الإدارة الأمريكية مثل المانيا النازية يفترض ان تكون دولة مارقة وخطيرة تسعى إلى الحصول على أسلحة دمار شامل واستخدامها.
إنه منطق حروب الرؤساء القادر على فرض ذاته على الرئيس الأمريكي الحالي.
ويبقى هذا السؤال: لماذا يستخدم بوش «منطق حرب الرؤساء» في حربه ضد العرب والمسلمين في العراق وافغانستان؟ وهل نحن في زمن سيطلق عليه زمن الذبح على الطريقة الأمريكية؟!!.
(*) مدير تحرير جريدة الحقائق لندن
|