جعل الله تعالى الكعبة قبلة للمسلمين واختار لها البلد الأمين وشرفه بأن أقسم به في كتابه فقال سبحانه {وّهّذّا البّلّدٌ الأّمٌينٌ} [التين: 3] وجعله حرماً آمناً لا يُسفك فيه دم ولا يروع فيه مسلم ولا ينفر له صيد ولا تلتقط لقطته إلا للتعريف وجعل الحج المبرور ماحياً للذنوب والخطايا موجباً لدخول الجنة بسلام، كما في حديث «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
فالحمد لله عز وجل الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً وجعل الحج من بين أركان الإسلام فريضة العمر وأكمل تعالى به الدين وأتم به النعمة وأنزل على نبيه صلوات الله عليه وسلامه{ اليّوًمّ أّكًمّلًتٍ لّكٍمً دٌينّكٍمً وّأّتًمّمًتٍ عّلّيًكٍمً نٌعًمّتٌي وّرّضٌيتٍ لّكٍمٍ الإسًلامّ دٌينْا} [المائدة: 3].
والحج المبرور الذي لا رفث فيه ولا فسوق أي الذي ليس فيه كلام فاحش ولا خروج عن آداب الشرع وحدوده، له في النفس واصلاحها أكبر الآثار لما فيه من الانقاطع عن الأهل والوطن والأعمال الدنيوية والاقبال على الله تعالى واحياء شعائر أعظم المرشدين والوقوف في مواقف أفضل المرسلين، لا حظ للنفس فيه.
فمن حج مثل هذا الحج المبرور، واستغرق قلبه بمثل هذا الاحساس والشعور، رُجي أن يمحى ما كان علق بنفسه من آثار الذنوب الماضية.
يقول الشيخ محمد بهجة البيطار: عند ذلك تنبعث النفس إلى حسن الطاعة والاستقامة على طريق الهداية، فيصح أن يقال: إنها وُلدت ولادة جديدة.
إن حكم الحج كثيرة، وفي كل واحد من أعمال المناسك تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر، وقد شرف الله البيت الحرام، بالاضافة إلى نفسه، ونصبه مقصداً لعباده وجعل ما حوله حرماً لبيته تفخيماً لأمره وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره وفي الطواف بالبيت تشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش، الطائفين حوله، وما القصد طواف الجسم فحسب، بل طواف القلب بذكر الرب.
وفي السعي بين الصفا والمروة اظهار للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة وفي الوقوف بعرفة وازدحام الخلق وارتفاع الأصوات باختلاف اللغات تذكر لاجتماع الأمم بين يدي الله تعالى يوم القيامة.
وفي رمي الجمرات طاعة للرحمن وانقياد لأمره وارغام للشيطان وقصم لظهره، وفي كل مشعر وكل شعيرة حكم ومقاصد نبيلة.
هذا قليل من كثير وغيض من فيض من مقاصد الحج وحكمه وفوائده.
وما أفضل الحج وشد الرِّحال إلى المسجد الحرام في البلد الحرام موطن الرسول ومهبط الوحي ومطلع النور.
ما أعظم الحج في عاصمة الإسلام ومهوى أفئدة بنيه ومجتمع المسلمين كل عام من جميع أقطار الأرض على تعداد أجناسهم وتنوع لغاتهم وتنائي بلدانهم يجتمعون ليشهدوا منافع لهم روحية وجسدية، دينية ودنيوية، فضلاً من الله ونعمة.
ما أجمل رؤية الحجاج محرمين وملبيِّن، والله درُّهم طائفين وعاكفين وراكعين وساجدين وساعين بين الصفا والمروة ومتعارفين متراحمين في بيت الله عز وجل، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
إن مما ينبغي تأكيده أن للحج في شعائره حكماً وأسراراً، وأن في كل عمل من أعمال مناسك الحج تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر، إذا انكشف بابها ظهر من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وغزارة علمه وفهمه.
ثم إن الحج هو مؤتمر المسلمين العام الذي يعقد كل عام في منزل الوحي وفي البلد الامين، وفي المسجد الحرام مهد الإسلام ومطاف المسلمين، فما يظهر فيه من ألفة ومحبة يفوح شذى عَرْفه في سائر الأقطار الإسلامية، فيكون له أجمل وقع في نفس كل مسلم، فلا عجب إذا لبَّى المسلمون لنداء ربهم
|