ورطة حقيقية وجدت فرنسا وألمانيا نفسيهما داخلها، في الوقت الذي سعت فيه ثماني دول أوروبية، بقيادة لندن، ومدريد إلى التكتل خلف «جورج بوش».. صحيح أن باريس أرادت من البداية التقليل من حدة الأزمة، معتبرة أن الحرب ضد العراق ليست أكثر من مزاج شخصي للرئيس الأمريكي، لكنه موقف دفعت ثمنه غاليا.. قبلا، الوضع السيئ في ساحل العاج الذي هز الدبلوماسية الفرنسية التي حاولت التخفيف من وطأة الزلزال بالتصدي سياسيا لحملة أمريكية أوروبية ضد العراق.. ففي الوقت الذي حاول فيها الثنائيان «فرنسا / ألمانيا» النضال باتجاه الحل السلمي داخل الأمم المتحدة لمتابعة التفتيش بدل الحرب.
في هذا الوقت نشر زعماء ثماني دول أوروبية، في رسالة مشتركة نشرتها جريدة «التايمز» اللندنية، ينادي فيها أصحابها إلى السير خلف لواء الولايات الأمريكية المتحدة في الصراع الدائر ضد العراق.. كان الأمر أشبه بالخيانة بالنسبة للقطبين الفرنسي والألماني، بينما اعتبره «جورج بوش» انتصارا جميلا سيعمل على تقسيم الأوروبيين.. النتيجة: المجهودات الأخيرة (بل والخجولة) للدول الخمس عشرة للوصول إلى موقف متماسك إزاء الأزمة العراقية تحول إلى كارثة.. وأكثر من الكارثة نقول: بلبلة.. بيد أن هذه النتيجة سرعان ما نشرت ظلالها على العمل الدبلوماسي الأوروبي.. بحيث ان فرنسا تواجه اليوم خطر العزلة على الساحة الدبلوماسية الأوروبية.. أسوأ من هذا: الموقعون على الوثيقة المنشورة في جريدة التايمز اللندنية يستطيعون اليوم أكثر من أي وقت مضى تجسيد ما يسمونه: «أوروبا الحديثة» التي احتفى بها مؤخرا وزير الدفاع الأمريكي «رونالد رمسفيلد» متهكما على «أوروبا القديمة» (الفرنسية الألمانية).
من ثم، فإن مبادرة الإنجليزي «توني بلير» والاسباني «خوزي ماريا أزنار» سارعت في انضمام ثلاثة أعضاء آخرين من الاتحاد الأوروبي (إيطاليا، البرتغال، الدانمارك) بالإضافة إلى ثلاثة أعضاء من أوروبا الشرقية (سوف ينضمون رسميا عام 2004) وهم: بولونيا، المجر، جمهورية التشيك.. ليس في الأمر ما يضحك، مع ذلك ضحك «بوش» كثيرا وهو يحظى بتأييد زعماء أوروبيين مهمين!!
من الواضح أن هذه «الضربة» الدبلوماسية جاءت قبل سفر «توني بلير» إلى واشنطن.. وبدت وكأنها جاهزة من فترة، ليس لأن التأييد الإنجليزي للحرب على العراق كان كبيرا، بل لأن التأييد لم يكن ليمنع هذا الانفصام داخل اللهجة التي يخاطب بها الأوروبيون العالم اليوم.. لهجة فيها من التناقض ما يجعلنا نتساءل بجد «ما الفائدة مما يجري؟» في البدء، كتبت جريدة «وول ستريت» الأمريكية أن «بلير» حمل إلى الرئيس «بوش» مساندة الدول الأوروبية للحرب ضد العراق.. نفس الجريدة اعتبرت الموقف الاسباني بقيادة «خوزي أزنار» موقفا مهما من أولئك الذين اعتبرتهم الجريدة «أوروبيين حقيقيين»! ««أزنار» أجاب على الصحيفة شخصيا شاكرا إياها على ما كتب عن شخصه.
ليس هذا فقط، بل أعد «خوزي أزنار» مسودة مررها على عواصم أوروبية كثيرة متفاديا باريس وبرلين! لأجل الاندماج في هذا الوضع الجديد الذي أسماها بعضهم «بالمبادرة» بدت ثلاث دول من دول الكتلة السوفييتية القديمة ماهرة ومتساهلة قبالة العرض المغري.. ماهرة لأنها تحاول أن تثبت للأمريكيين أن البقعة الأكثر خطرا في الشرق الأوروبي قابلة لفكرة الاندماج عبر الانزلاق نحو «النمط الغربي».. ومتساهلة لأنها تشعر بالحاجة الماسة إلى الدعم الاقتصادي الأوروبي كحاجتها إلى مشروع سياسي يعمل على ترسيخ دبلوماسية موحدة، «على الأقل فيما يخص الدفاع فهم يعتقدون أن «لوتان» (OTAN) وأمريكا من خلالها بمثابة أحسن حماية من أوربا نفسها» يقول أحد الملاحظين الأوربيين.. ألم تعتمد «بولونيا» على طائرات أف 16 الأمريكية لتدعيم جيشها الجوي ؟ فلماذا (يتساءل الجميع في باريس وبرلين) هذا الطعن من الخلف من الشركاءالأوروبيين بمن فيهم (برليسكوني ووأزنار)؟ ليس مستبعدا أن تتورط بعض الدول الأوروبية في الضغط على فرنسا وألمانيا لأجل مصالح دول أخرى، حتى وإن بدت العودة الفرنسية الألمانية إلى الساحة الدبلوماسية قوية في الأيام الماضية، هذا لم يمنع بعض أعضاء الدول ال15 الذين يحملون باريس وبرلين أخطاء جسيمة!!
في فرنسا، الجميع يحاول التقليل من حجم الوثيقة التي حملها «بلير وأزنار».. وثيقة تحمل بين طياتها (كما يقال في الاليزيه) «الكثير من الأشياء التي كانت فرنسا قادرة على التوقيع عليها أو حتى صياغتها، بخاصة نزع السلاح في العراق».. فمن بين الـ25 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الموسع، لم يوقع على الوثيقة سوى ثمانية.
هذا دليل أن فرنسا ليست معزولة ولا أحادية الرأي» قالها «ميشيل اليوت ماري» ضاحكا أمام جمعية «الصحافة الدبلوماسية».
هذا لم يمنع من النقد الموجه إليه شخصيا.. الانهيار في الهيئة الأوروبية من الداخل ليس نتيجة الأزمة العراقية كما يقول البعض.. ليس لأن فرنسا وألمانيا عارضتا وتعارضان الحرب.. بل لأن مشروع الانهيار كان قديما.. «بوش» عبر عن ارتياحه للانفصام الذي حدث.. أو كما نسميه نحن الفرنسيين بالشرخ.. شرخ لم يعد يسده شيء، لأن الولايات الأمريكية تريد أن تقود العالم.. تريد أن تقود أوروبا التي تضع رأسها اليوم في فم الأسد!!
(*) عن «لو باريزيان» الفرنسية خدمة الجزيرة الصحفية
|