جاءتني الرسالة المشار إليها أعلاه عبر البريد الالكتروني محولة لي من صديقة تحمل حساً وطنياً وابداعياً مرهفاً وقد أضافت على نهاية الرسالة سؤال «ما رأيك» ولم تعلم صديقتي أنها بذلك السؤال قد جعلت نهاية رسالة بنت أوهايو من بلدها السعودية إلى بلدها أمريكا بداية لرسائل انسانية كثيرة طال السكوت عنها أو تأجيلها وقد جاء الوقت ليتبادل بها مجتمعات العالم جمال الاختلاف والتعدد الذي لا يقل روعة ونبلاً عن جمال التكامل والتناغم. وقد كان رأيي ببساطة هو أننا حقاً نحتاج إلى مثل هذه الرسائل الخافتة والحميمية التي يتبادلها الناس بمشاعر شفافة مشتقة من رومانسية البعد ومن أشواق الفضول المعرفي لمعرفة الآخر أو التواصل معه. وهذا النوع من الخطاب الشخصي على طوبائيته قد يكون أشد مضاء من الخطب الملطخة بالتلوث السياسي في شفاء العالم من موجة الشك والكراهية التي تجتاحه من يوم أن قررت أمريكا الانتقام لاحداث الحادي عشر من سبتمبر بأكثر اشكال الانتقام شراسة ووحشية وهي الكراهية والحرب. على ما في ذلك الأسلوب البدائي من تهديد وخسارة عامة لن ينجو منها المجتمع الأمريكي نفسه إلا بمقاومة الكراهية. ورسالة الدكتورة سارة التركي أو سالي هي في رأيي أحد أشكال مقاومة الكراهية بين مجتمعات العالم وأحد أشكال مقاومة تعميم العنف وعولمة الكراهية.
وكنت قد قررت في بادئ الأمر ترجمتها لأمي لنحدث ثقباً مشتركاً نتنفس منه غير رعب الحرب القادمة على المنطقة بخرابها ومناياها. فلما أتممت الترجمة وهي ترجمة لا تخلو من خيانة رأت نور أمي أن أشرك أكبر قدر من القراء فيها لأنها في رأيها الذي أوافقها عليه، وان كانت في الأصل رسالة موجهة إلى أصدقاء السيدة سالي من الأمريكيين لازالة اللبس في فهم الشعوب لبعضها البعض، فإنها يمكن قراءتها كرسالة موجهة الى المجتمع العربي والسعودي كتعبير عن حالة حب بين الشعوب علنا نستطيع بالحب ابطال مفعول الحرب قبل أن تلتهم أطراف جميع الأطراف. هذا ولله الأمر من بعد ومن قبل. ولنشترك في القراءة:
«طالبني الكثير من الأصدقاء في الولايات المتحدة الأمريكية بالكتابة عن ماذا يعني أو يشبه أن تكوني امرأة بالسعودية، هذا سؤال كبير لا يمكن الاجابة عليه بكلمة، ومع ذلك دعني أبدأ بالقول بأنني عشت في السعودية قرابة اثنين وثلاثين عاماً ولا أعتقد أنه كان بالامكان أن أكون أسعد حالاً مما كنت عليه طوال تلك الفترة، أشعر بأنني مكتفية تماماً كامرأة، كمختصة وكعضو بالمجتمع السعودي وكانسان يساهم في تطوير وتنمية المجتمع الذي ينتمي اليه. علاقتي بزوجي، بأسرتي السعودية الممتدة وبالعديد العديد من الاصدقاء السعوديين هي علاقات تتسم بالدفء والعمق معاً، انني أشعر بالحب حقاً وأشعر بأنني محبوبة ومتقبلة من قبل العديد من الناس الذين عرفتهم على مدى تلك الأعوام.
وبهذا فانني عندما أكتب إليكم عن شعوري بالمكان وناسه فإنني انطلق من مشاعر الحب والاحترام المتبادل اللذين يربطاني بعائلتي «المتبناه» ومجتمعي على هذه الأرض. قد يكون من الصعب فهم هذا على الناس بالولايات المتحدة. اذ كيف لابنة البلدة الصغيرة «أوهايو» أن تشعر بهذا الانتماء الحميم وكأنها في بيتها ووطنها وهي تعيش في مثل ذلك المكان الغريب الأجنبي، إلا أن الحقيقة هي أنني فعلاً أشعر بهذه الألفة مع المكان وناسه. علاقتي بالعربية السعودية لا تؤدي بأي حال من الأحوال الى التقليل من فعاليتي أو أهميتي لا كإنسان ولا كامرأة ولا حتى كأمريكية. بل على العكس من ذلك أنها علاقة تغني وتعمق من فهمي وتقديري لمعنى وقيمة الاختلاف والتعدد في الحياة نفسها.فهل الحياة بالسعودية مختلفة عن الحياة بامريكا؟ بالطبع انها مختلفة جداً. هل أشعر أحياناً بالانزعاج والاحباط من محدودية الواقع. بالتأكيد. هل هناك جوانب حياتية آمل في تطورها. بلا شك. ولكن هناك أيضاً أشياء أود أن أراها تستمر وتصمد كما هي عليه بالمجتمع السعودي. على سبيل المثال. أود استمرار الرابطة الأسرية المميزة للعائلة السعودية، عمق علاقات الصداقة، ذلك الشعور الفريد بان الانسان لا يمكن أن يكون وحيداً طالما أن هناك دائماً من هو على استعداد لمد يد المساعدة عند الحاجة. كأم كنت دائماً أشعر بسعادة غامرة بأن أبنائي ليسوا عرضة للصور الاعلامية التي تمجد العنف والجنس كأسلوب حياة. مع الأسف هذا يتغير الآن حيث الاعلام الأمريكي (بيه وتش، تمبتيشن، ايلاند، روبوكوب» وما إليه من الأفلام والمسلسلات الأمريكية آخذ في السيطرة على موجات الأثير في العالم كله، كامرأة فإنني أمتن لحقيقة أن أجساد النساء هنا ليس أدوات للتسويق كما هو الأمر عليه بأمريكا، وليست معروضة كسلعة على كل جدار وشاشة، كما أنني أشعر بالامان في هذا المجتمع نتيجة عدم انتشار المخدرات وتدني معدلات الجريمة بالسعودية. مع أن هذا الانخفاض في عوامل عدم الاستقرار قد يكون لسوء الحظ عرضة للتغيير بسبب مافيا المخدرات التي تحاول أن تجد طريقها إلى البلاد وإلى الشباب اليافع الذي يجد نفسه في مأزق بين القديم والجديد، وقد يقع فريسة بينهما، غير أن من حسن الحظ أن المجتمع السعودي لا يتردد في الاعتراف بهذه التحديات ويحاول مواجهتها. فهناك العديد من اللجان والمؤسسات والمنظمات التي أسسها رجال ونساء سعوديون وهم من خلال العمل الجماعي بها يحاولون التوصل إلى أفضل الكيفيات التي تدخل التغير الاجتماعي إلى المجتمع دون أن يخل ذلك بالجوانب الجمالية والإنسانية التي هي مصدر غنى واعتزاز للتقاليد العربية السعودية.
دعني أخبركم عن طبيعة عملي ونشاطي الاجتماعي بالمجتمع السعودي ليكون بامكانكم رؤية بعض اشكال العمل التي تجري. كما تعلمون أنني وزوجي قد قمنا بتأسيس ما أصبح يعرف باسم مدارس الظهران وهي مدارس تحظى باحترام تربوي. وبها ما يربو على 1700 تلميذ. أنا أعمل بدوام كامل كمديرة لقسم البنات بالمدرسة ويزيد عدد تلميذاتها على 800 تلميذة. بالاضافة إلى ذلك فانني اشارك في ادارة دار للنشر تختص بالكتب العربية في حقل التدريب التربوي. وكذلك مركز يقوم بتقديم برامج مشورة وتدريب للمدارس الأخرى في محاولة للتطوير والتحديث التربوي والتعليمي. وكذلك فانني من الأعضاء المؤسسين لمركز لاعداد المعلمين للطفولة المبكرة، وهذا المركز يقوم بخدمات التدريب ونشر المواد التعليمية ويقدمها لكل من يطلبها من الجهات التعليمية لما قبل المدرسة في مختلف أنحاء المملكة.
وهناك أيضاً نشاطات أخرى يتاح لي القيام بها كامرأة تعيش بالمجمتع السعودي. أعمل في جمعيات نسائية تحاول أن تساعد النساء من كل المستويات الاجتماعية ليطورن انفسهن ويكتسبن المهارات. كما نعمل في الجمعية على جمع التبرعات لمساعدة العوائل المحتاجة. كما أنني واحدة من النساء اللواتي قمن بتأسيس مركز جديد يحاول مساعدة النساء والعوائل المحتاجة عن طريق تقديم عدد من الخدمات الاجتماعية منها تدريب النساء انفسهن على اعالة انفسهن وأسرهن بايجاد أعمال مناسبة لهن بعد تدريبهن عليها أو منها دعم من تريد منهن بدء مشروع تجاري صغير.
الشتاء الماضي وقعت المملكة العربية السعودية اتفاقية الامم المتحدة بخصوص عدم التحيز ضد النساء. أيأتي التغير بسرعة؟ بالطبع لا. هل من سيكتب عن ذلك في الصحف الأمريكية؟ بالطبع الاجابة ايضاً لا. هل سيأخذ التغير اشكالاً يمكن أن تفهم بسهولة من قبل الأمريكيين؟ الاجابة تكون احياناً لا وأحياناً نعم. الأشياء تحدث في السعودية بهدوء وسمت وخاصة في القضايا الاجتماعية، تحدث الأشياء أو التغيرات ببطئ قد يكون بطئا شديدا بمقياس الأمريكيين وحتى بمقياس وأشواق بعض السعوديين أنفسهم إلا أن التغيرات الايجابية تحدث بدون انقلابات اجتماعية وبدون حروب أهلية مما حدث في مجتمعات أخرى دون أن يفيد من ذلك أحد، دراستي لعمليات التغير في المدارس حول العالم علمتني أن التغير والتطوير لا يحدث بدون كفاح مستمر وعمليات التطوير عمليات معقدة وتأخذ وقتاً أكثر مما نتوقع، وتجربتي في السعودية تقول أن التطور هادئ وبطيء ولكنه مستمر ومتواصل.
في ضوء ما قرأنا عن وضع المرأة الافغانية ابان حكم طالبان، لابد من الايضاح أن هناك من الكتابات ما حاول عقد مقارنة غير موضوعية بين ذلك الوضع وواقع المرأة السعودية. وهنا أحب أن أوضح بأن ما حكيته أعلاه من نشاطي المهني والاجتماعي ليس حالة استثنائية خاصة بي بل انه النشاط المعتاد للمرأة المتعلمة، ولمزيد من التوضيح لابد من القول أن البنات يذهبن الى المدارس بشكل منتظم والنساء يحق لهن الالتحاق بالعمل وان كان في مجالات معينة، فمنهن سيدات أعمال، معلمات، طبيبات، ممرضات، صحفيات وكاتبات. كما يحق للنساء تشكيل لجان العمل الأهلي والتصرف بأموالهن الخاصة لتطوير المجتمع عامة وأوضاع المرأة بشكل خاص.
أحد مجالات عمل المرأة التي تجد اقبالاً في الوقت الحاضر هو مجال العمل التجاري. وربما تتذكرون أن أول زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت سيدة أعمال وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة من العاملين معها. كثير من النساء السعوديات اليوم يتجهن إلى العمل الخاص. وقد أقدمت بناء عليه الغرفة التجارية باقامة فروع نسائية كاستجابة لحاجات المرأة في هذا المجال. وباختصار لا يزال على السعودية الكثير من مهام التطوير لاوضاع المرأة ولكن لا يمكن مقارنة الوضع بما كان عليه وضع النساء في افغانستان.عبر سنوات طويلة كان السعوديون ايجابيين جداً تجاه أمريكا حكومة وشعبا، تاريخ العلاقة بين البلدين كان يشكل مصالح متبادلة بينهما آلاف من السعوديين رجال ونساء درسوا بالجامعات الأمريكية ولا يزالون يحملون مشاعر طيبة تجاه البلد وأهله، وآلاف من الأمريكيين عاشوا زهرة حياتهم المهنية على هذه الأرض، لدينا جيل ثان وثالث من الأمريكيين الذين عادوا للعمل بالسعودية بناء على التجارب الجيدة التي مر بها من مر من هنا.
الأغلبية السعودية لم تكن راضية عن احداث سبتمبر ولا شمتت بضحاياها حيث مثل هذا الموقف لا يرضاه الإسلام، والسعوديون عادة ما يتعاطفون ويشعرون بالأسى على الخسارة في الأرواح البريئة سواء حدث ذلك في أمريكا أو سواها من بلدان أخرى من العالم. كما تحدث هذه الخسارات الفادحة يومياً على أرض فلسطين للفلسطينيين الأبرياء.
كما ترون من رسالتي هذه حياتي وحياة أصدقائي من السعوديين تختلف تماماً في واقعها عما يصور في الصحافة الأمريكية.. وكم من المحزن ألا تفهم أمريكا إلا أقل القليل عن العالم العربي، انني أدعو الله وآمل أن يجيء يوم يكون فيه لدى أمريكا فهم أعمق لاخوانهم واخواتهم بالعالم العربي وتصاغ السياسات الخارجية على أسس ذات ثبات فيه ومصداقية مع المبادئ الأمريكية التي أعرف وأحبز.
مع أطيب تحياتي
|