إن من المعلوم في باب الأسماء والصفات، أن من صفات الله عز وجل الإحياء والإماتة، فهو المحيي المميت، كما وأن لقضية الأعمار صلة مباشرة بالقضاء والقدر. تحدث الإمام الذهبي عن أعمار بني آدم فأشار الى أنها قد تكون معرضة للزيادة والنقصان دون خروجها عن دائرة القضاء والقدر، وذلك في تعليقه على النقاش الذي دار بين أبي عوانة وهمام بن يحيى، فقد ذكر أبو عوانة أن دخل على همام بن يحيى وهو مريض يعوده، فقال له: «يا أبا عوانة، ادع الله ألا يميتني حتى يبلغ ولداي الصّغار. فقلت: إن الأجل قد فرغ منه، فقال لي: أنت بعد في ضلالك» فرد عليه الإمام الذهبي موضحا ما قد يلتبس على البعض في هذه المسألة بقوله: «بئس المقال هذا، بل كل شيء بقدر سابق، ولكن وإن كان الأجل قد فرغ منه، فإن الدعاء بطول البقاء قد صح دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بطول العمر، والله يمحو ما يشاء ويثبت. فقد يكون طول العمر في علم الله مشروطاً بدعاء مجاب، كما أن طيران العمر قد يكون بأسباب جعلها من جور وعسف، ولا يرد القضاء إلا الدعاء والكتاب الأول، فلا يتغير».
وتعليقه هذا فيه إنكار على همام بن يحيى في قولته تلك، لأنها تمس أصلاً عقديا من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ألا وهو أن كل بني آدم قد كتبت آجالهم وهم في بطون أمهاتهم كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد». ومن هنا تبرز قيمة تربوية هي: زرع الثقة في النفس من خلال الإيمان المطلق بالقضاء والقدر، وعدم الخشية من المجهول، مع التأكيد على أهمية الدعاء والعمل الصالح في حياة المسلم. ومن الممكن أن يزيد الله في عمر الإنسان في ما يقدره له في سابق علمه، ولذا وجه الإمام الذهبي إلى ما كان ينبغي أن يجيب به أبوعوانة على ما قاله همام بن يحيى، ألا وهو جواز الدعاء بطول العمر وأن ذلك لا يتعارض مع قضاء الله الأول، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه». وقد يتعارض ظاهر هذا الحديث مع قوله تعالى: {وّلٌكٍلٌَ أٍمَّةُ أّجّلِ فّإذّا جّّاءّ أّجّلٍهٍمً لا يّسًتّأًخٌرٍونّ سّاعّةْ وّلا يّسًتّقًدٌمٍونّ}. والجمع بينهما يتضح ببيان أن المقصود بالزيادة البركة في العمر بسبب التوفيق الى العمل الصالح والبعد عن المعاصي، بحيث يترك صاحبها بعد موته ذكراً طيباً أو علماً ينتفع به أو صدقة جارية عليه، وقد تكون الزيادة على حقيقتها بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما في علم الله فهي محددة لا تتغير، فمثلا قد يقال للملك عمر هذا مائة إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، والله وحده هو الذي يعلم إن كان سيصل رحمه أو يقطعها، فما كان في علم الله لا يتغير، ولكن ما في علم الملك هو الذي قد يتغير، قال تعالى: {يّمًحٍو اللَّهٍ مّا يّشّاءٍ وّيٍثًبٌتٍ وّعٌندّهٍ أٍمٍَ الكٌتّابٌ} بعد أن ذكر مجموعة من الأقوال حولها بقوله: «ومعنى هذه الأقوال ان الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء». وبما أن الدعاء والعمل الصالح يرجى منهما طول العمر وبركته، فيكون ذلك حافزاً للعمل الصالح وطول الاتصال بالله بما يحقق الدعاء المستجاب، وبما أن العسف والجور يمحقان العمر ويعرضان صاحبهما لبغض الله وسخطه، فكان في ذلك ترهيب من فعلهما والبعد عنهما. وهناك فائدة نفيسة تكمن في عدم الاكتراث بما يتقوله الناس في أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه، وتجنب الاستسلام المؤدي إلى ضعف الشخصية. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
|