هنا ترى العين ما لا يمكن أن تراه في موضع آخر، وتسمع ما لا يمكن أن تسمعه في مجتمع بشري آخر، هنا رؤوس حواسر، ووجوه نواضر، وعيون بدموعها زواخر، وقلوبٌ تفيض بأسمى المشاعر.
هنا صورةٌ لا يمكن أن تُطبع على صَفْحةٍ أخرى أبداً، ولا يمكن أن تعرض في موقعٍ آخر من هذه الكرة الأرضية أبداً، ولا يمكن أن تشابهها صورةٌ في ألوانها وتناسقها وجمال خطوطها أبداً، هنا عرفات، وما أدراك ما عرفات، ساحةٌ الإيمان الفسيحة، وروضةٌ يانعة بالذكر والتلبية والتكبير، ساحةٌ تُشرق كل عامٍ بهذا النُّور الإيماني الذي يغمر الوجود، آلاف السنوات تعرفها عرفات، وهي تعرف عرفات، وملايين البشر وقفوا في عرصاتها، ورفعوا أكفَّهم إلى المولى القدير يستمطرون رحمته، ويطلبون مغفرته، ويتضرعون إليه تضرُّع الخائف الراجي، المؤمن المؤمِّل في عفو الله ورحمته.
صعيد عرفات، لكأنني بكل ذرَّةٍ من ذرات ترابه، وحجرٍ من حجارة جبل الرحمة فيه، تتحدَّث بلسان فصيح، عن ذلك الفوج المبارك، وتلك الناقة الواقفة، على صعيد عرفات تحمل أفضل الخلق، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وقد رفع كفَّيه الطاهرتين إلى السماء يدعو ربَّه ويُلحُّ في الدعاء، يسأله المغفرة لأمته والرحمة بهم، ويستجيب الله سبحانه وتعالى دعاءه ويوحي إليه أنه يتوب على كل واقفٍ في هذا الصعيد الطاهر ويغفر لهم ما بينهم وبين ربِّهم، إلا المظالم التي بينهم، ويظل نبيُّ الرحمة صلى الله عليه وسلم يبتهل إلى ربه أن يجعل رحمته شاملةً ومغفرته عامة، وينطلق في نَفْرته من عرفات إلى مزدلفة التي تُسمَّى «جَمْعَا»، وهو يلحُّ في دعائه واستغفاره وتكبيره وذكره، ويكرِّر ابتهاله إلى الله: ياربِّ إنك قادر على تعويض كل مظلوم عن مظلمته، والمغفرة للظالم في هذا الموسم العظيم، وتأتيه البشارة الكبيرة من اللطيف الخبير الغفور الرحيم، لقد غفرتُ لهم.
هنا في صعيد عرفات.. موسمٌ لا كالمواسم، وموقف لا كالمواقف، هنا رَحَماتٌ ودعواتٌ، هنا زفراتٌ وعبرات، هنا قطوفٌ من المغفرة دانيات، وغصون من الرحمة مثمرات، ووجوه بالطاعة مشرقات، وثغور بالذكر والتسبيح ناطقات، هنا كَوْنٌ كبير يضُمُّ بمساحته الروحية آفاق الكون المادية، هنا صعيد عرفات.
صورةٌ تستوقف كلَّ ذي عقلٍ وبصيرة، تملك عليه قلبه، وتأسر لُبَّه، وترسم في ذهنه عظَمة هذا الدين الذي بشَّر به جميع الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام.
هنا عرفات، لباسٌ واحد، ووقوف واحد، ومناجاةٌ لربٍ واحد، وسعيٌ إلى هدفٍ واحد، هنا تذوب الفوارق بين البشر، وتتلاشى العنصريات، والعصبيات وتتوحَّد الغايات، فكل رأسٍ هنا لابد أن يكون حاسراً، وكل لسانٍ هنا لا بد أن يكون ذاكراً، وكل قلب هنا لا بد أن يكون حاضراً، أين الملك والأمير والوزير والغني والفقير، والكبير والصغير؟؟، كلهم بلباسٍ واحدِ يتجهون إلى العليِّ القدير..
من أجل ذلك كانت عرفات صعيداً متميزاً، وموقفاً فريداً، وساحةً لا نظير لها أبداً، وكانت صورةً متفرِّدة بجمالها وكمالها، وإشراقة ألوانها، وتناسق مناظرها، وما تحمله من إيحاءاتٍ روحية عظيمةٍ، وأبعادٍ تاريخية عريقةٍ، وظِلالٍ إيمانيةٍ تجد فيها النفوس راحةً وسعادةً وهدوءاً لا يمكن أن تجدها في مكان آخر غير صعيد عرفات.
صعيد عرفات المبارك.. واحةٌ لجموع الحجيج، وموسم أجر عظيم لمن صامه من المسلمين الذين لم يكتب لهم الحج، إنه يوم عرفات الذي تمتد بركته إلى كل مكان.
* إشارة:
هنا أمنٌ يبدِّد كلَّ خوفٍ
ويتقن رسم دائرة السَّلام
جموع من فجاج الأرض تأتي
تتوق إلى رضا ربِّ الأنام
|
|