لو دعيت إلى التظاهرة التربوية الكبرى، لتحديد المراد المتبادل بين ثنائية: (المجتمع) و(التربويين) لكان في فمي ماء، وكيف ينطق من في فيه ماء!. أما وقد كفيت عناء المجادلة والمجاهدة، أو المجاملة والمداهنة، فقد وجدتها مناسبة (لأرسلها العراك) على حدِّ قول (لبيد) ورأي (سيبويه). ونحن في غمرة التلاحي أحوج إلى التوفيق منه إلى التحريش. وما من أحد منا تختلط عنده الرؤى والمفاهيم، إلا ويكون قوله (ضغثاً على إبَّاله). فالوزارة الأخطبوطية المنتشرة كالضباب مجلّلةً الوهاد والنجاد، لا تطلب المزيد من العناء، ولا رد اللفحات، وإنما تعطو إلى نسمات اللطف. ومن الحقائق الغائبة في ضجة الجدل أن (التعليم) يكون صناعة، ويكون فريضة وعبادة. والدهماء من الناس لاتفرق بين المهمتين، مشكّلةً بلحمها وعظمها عقبة في طريق التحرف السليم، وما لا مراء فيه ان لكل مطلب مرجعيته ومشروعيته، فصناعة الإنسان للإنتاج تتطلب العصرنة، وصناعته للعبادة تتطلب الترثنة. وفوق ذلك فالتعليم شطر التربية، كما (الحياء شطر الإيمان)، ومن جعله الكل في الكل، ونسي البيت والسوق والمسجد وضخ القنوات وتدفق مراكز المعلومات، وما تحمله وسائل الاتصال، وما يختصره ويزويه عصر القرية الكونية، وما تفاجئ به التحولات الحضارية والمدنية فقد حمّل التعليم ورجالاته مالا يحتملون، وغفل عن تلك المؤثرات التي تطال التفكير والتدبير والقيم والمفاهيم والمواقف. ومع هذا وذاك فإن التعليم شبكة معقدة من المشاكل والإشكاليات، لا تحسم بذهاب مسؤول ومجيء آخر، ولا تقلّص بنزع غلاف من مقرر ووضع آخر، ولا تحل بتغيير مسمى المفتش بالموجه ولا المراقب المرشد، ولا تنقض مشاكله عروة عروة بابتداء لقاء وانتهاء آخر، ولكنها تكون بتلك وبأشياء غائبة. ومن توقع أن أحداً من المشرعين أو المنفذين يمكن أن يأتي متوكئاً على عصا موسى، أو أن أمره بين (الكاف) و(النون) فقد وقع في أضغاث لأحلام، وفوت على قومه فرصاً لا تعوض.
وعلى المشرِّعين والمخططين ومن دونهم من المنفذين ومن حولهم من المتابعين: الراضين أو الساخطين معرفة ذلك تمام المعرفة، لمواجهة مجمل التساؤلات والإشكاليات مواجهة حضارية. وحين تُخْلط الأوراق، ثم لايفرق المتعقبون للعملية التعليمية بين (التعليم الدنيوي) القائم على التدريب المهني والتأهيل المعرفي والتعليم التجريبي، لإعداد القوة المادية من أطباء ومهندسين وعلماء تجريبيين وإداريين وفنيين وحرفيين ومحاربين، و(التعليم الشرعي) للتفقه في الدين، وإعداد القوة المعنوية من فقهاء ومحدثين ومفسرين ومتكلمين وناهضين بمسؤوليات القضاء والدعوة والحسبة يستفحل فيما بينهم التنازع والتنابز والهمز واللمز، الذي قد يبلغ أحطَّ دركاته. والسرعان من الناس من يخلطون بين: الديني والدنيوي، ولايفرقون بين طلب العلم الفريضة وطلبه الاختياري، ومثل هذا التشابه يهيئ الأجواء لتناسل الارتياب والاتهام، وقتل السمعة. ولو أن المتجادلين فرقوا بين الثابت والمتحول، وعالجوا الأمور وفق أهدافها وغاياتها، وفي إطار مجالاتها، وعلى ضوء الإمكانات المتاحة، لهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.
والدولة حين ترتبط بالشريعة: وجوداً وعدماً، وتصدر منها، فيما تأتي وتذر، وتخضع لها حاكمية، يكون إقدامها وإحجامها حساسين، وتحرفها مثيراً للمساءلة والتحفظ، ويكون الإشفاق من أي محاولة للتغيير، مهما كانت المبررات والحيثيات. فالزمن الرديء لايبشر بخير، والأوضاع المتردية عن يمين وشمال تخيف المخيفين، وما من أحد إلا وفي أعماقه عقدة التآمر والمكر، لكثرة تعرضه لها وقوعه في حبائلها، فالأعداء المتربصون وممن حولنا من المداهنين، يأتون السوائد والثوابت ينقصونها من أطرافها، ويمهدون لذلك بما يشيعونه عن البلاد وأهلها وتعليمها من قالة السوء. ولقد تناولت أطرافاً من هذه الشائعات بمقالين عن: - (صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية) (الجزيرة 21423/2/4 و1/3/1423هـ). وفي ظل هذه الأجواء المتوترة لا يكون تفكير في التغيير إلا ويكون إلى جانبه تفكير في الاعتراض. وجميل أن يكون تفكير وتساؤل واعتراض حصيف، ولكن الأقبح أن يحال التغيير إلى سوء النوايا، أو أن يربط بالحملات الإعلامية الغربية، فينشأ تردد معيق وارتياب مخيف. وعندما نبيح لأنفسنا التشكيك بالعمل والعامل نعطل المسيرة ونظن بأنفسنا ظن السوء، ونتيح للمشاكل أن تتراكم، كما الظلمات التي بعضها فوق بعض. والمعترض على أي إجراء: إما أن يكون ناصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإما أن يكون نقيض ذلك أو دونه، على غرار: - (فمن كانت هجرته). وعلى شاكلة المقاتل الذي يكون قتاله لإعلاء كلمة الله، أو يكون حمية أو شجاعة. ولما كان أمر الدنيا على الظواهر، وأمر الآخرة على البواطن، كان من واجبنا ألا نتعمد شق الصدور.
والأمر لاينتهي عند حسن النية أو عند سوئها، ولا عند التبين والعلم، وإنما يتجاوز ذلك إلى أمور أخرى، تتعلق بأسلوب الممارسة وظروفها، وحجم التطلع وإمكاناته. ثم إن المعترض يكون ناصحا وصادقا، ومع ذلك يكون عرضة للجهل أو للتسرع أو لخطأ التقدير أو التوقيت، وقد لايتوفر في مواجهته على ما يحب الله من الحلم والأناة، وقد يكون متأثراً بالشائعات، غير منصاع للتثبت، رابطاً بين ما يثار من اتهام، وما يشاع من ريبة، وعند هذا لايكون نصحه وصدقه منجيين، والنصح الصادق لابد له من الدراية الواعية والتثبت الدقيق، وشيء من فقه الواقع، ومعرفة الأحوال والمتغيرات والأجواء والإمكانات، وحسن النية وإحسان الظن، والتماس العذر لمن لم يحالفه الحظ. فنحن أحوج ما نكون إلى الأجواء الملائمة للمحو والإثبات. وليس من شك أن العلم الدقيق بالملابسات أولى بشائر التسديد والتوفيق، والعلم شرط القول والعمل، فالسبيل الدعوي الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلانه، ربطه الله ب (البصيرة) وهي العلم.
والبصيرة ليست فقط في إتقان ما يقال، ذلك أن الإنسان يكون حافظاً لكتاب الله، مقيماً لحروفه وحدوده، مستوعباً للحكمة: قولاً وعملاً وإقراراً، ولكنه غير فقيه، سواء أكان الفقه: فقه أحكام أو فقه أحوال و(رب مُبلّغ أوْعى من سامع). إذاً نحن أمام شرط أساسي في مواجهة المتغيرات المصيرية، وهذا الشرط تجمله (البصيرة). ولكل حقل معرفي بصيرته، فالسياسي له بصيرته السياسية، ولكل من الاقتصادي والتربوي والأديب والمفكر والفيلسوف ورجل الأعمال بصائرهم. و(البصيرة) لا تكون على المحجة البيضاء حتى يخالطها الصدق والإخلاص والاستبراء للدين والعرض. فكم من عالم نحرير أضله فساد الفكر أو انحراف المعتقد أو سوء الظن بالمسلمين، أو الهوى المتأله. وبصيرة العصر تختلف عن بصائر ما سلف، ذلك أن النوازل تعقد الأمور. كما أن تعدد الاحتمالات، والتماكر، والمخادعة، وبراعة اللاعبين، ولطائف اللعب أمور يشيب من هولها الوليد. وإذ يكون المتابعون للعمليات المصيرية رواداً فإن السمة اللازمة للرائد ألاَّ يكذب أهله، ولعلي فيما أقول حفي بأوضاع القائلين بشأن التعليم لا بالتعليم ومتطلباته، فالشنشنات تكاد تعرِّف بنفسها، ووميض النار من خلل الرماد يكاد يكون ضراما، ومتى سدد الله على طريق الحق أطراف العملية، أخذ التعليم طريقه القاصد، وذلك ما كنا نتطلع إليه. ولما كانت الأمم العظيمة محفوفة بتربية عظيمة، لزم أن تكون الأمم الضعيفة متعثرة بتربية ضعيفة، وعلينا وعي أنفسنا، ومعرفة من نكون، وماذا يجب أن نكون.
والدولة حين يأتمن الله مسؤوليها على مصالح المسلمين وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وأفكارهم وأخلاقهم، يكون عليها واجب، ولها حق. فواجبها التفاني والنصح، وحقها السمع والطاعة والمناصحة. وليس أضر على الأمة من الخيفة المتبادلة. فالدولة حين تخشى الرأي العام وتداريه، والكافة حين تخاف الدولة وتلوذ بالصمت، تقوم الريبة، ويستفحل الخوف. ومتى قامت الريبة بين المتعاقدين صُرفت كل الجهود تلقاء حماية الذات، ووجهت كل الأفكار للتحايل، وتمرير المراد بوسائط غير مشروعة. وجهل العلاقة الشرعية بين طرفي العقد، يؤدي إلى قيام أنماط من العلاقات غير السوية. وما علينا من بأس حين نواجه أقدارنا بشجاعة، ونعرف كيف نتصرف في ظلها، فالتكتم كالداء الدفين، يستشري في الأبدان، وتضوى به الأجسام، ك (احتمال الأذى ورؤية جانية). ولسنا بدعاً في مجمل السياقات التاريخية والسياسية والدينية والإقليمية، فكل فترة لها مشاكلها، والحازم من يقدر على تكييف نفسه مع ظروفه، ويجتهد في التغلب عليها، ومن قال: -بأن الأمور سمن على عسل، وأنها على خير ما يرام، فقد أضلّ بالتصديق ولم يهد بالصدق. وإذ نتفق على أن هناك خللاً في التربية، يكون لزاماً علينا تداركه، سواء مايتعلق منه بالمهارات أو بالتعاملات أو بالأخلاقيات، وإذا كان لكل زمان دولة ورجال، فإن لكل زمان تربية وتعليماً.
والدولة المعاصرة مهيمنة، وممسكة بكل المصائر، كما رب الأسرة، وإن كانت (العولمة) وراء تحجيم دورها وخصخصة مجالاتها، وعزلها عن كثير من مهماتها. وهيمنتها تتطلب منها ملاحقة المستجدات والشفافية والمصارحة، إذ لا مكان للخائف المترقب ولا للمداري المتردد. وحين يكون الطرفان: -الحاكم والمحكوم في سفينة واحدة - وهم كذلك- فإن عليهما توخي السلامة، لأن أي خلل يعترض السفينة يمس الكبير والصغير. وقد ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناصح لأمته المثل بالقوم المستهمين على المواقع داخل السفينة، مبدياً أهمية الأخذ على الأيدي المضرة بتصرفها لنجاة الجميع، وكان حقاً على المقتدرين استصحاب هذا المثل الحي، ومعرفة حدود (الحق) و(الحرية): حق طرفي العقد وحرية التصرف واحترام النظام. وطريق الحفاظ على سلامة السفينة لا يكون بالضرورة طريقاً لتبادل الاتهامات والإسقاطات. والاختلاف في وجهات النظر لاينزع الأهلية، ولايدعو إلى الإخلال بمقتضيات العقد الاجتماعي، وكم نرى ونسمع من بعض المؤتمرين أو المنتدين أو القنواتيين أو الكاتبين إطلاقات في النقد وتعميمات في الاتهام. وكيف يمكن القبول بهذه التعميمات وكافة المسؤولين قد مروا بمراحل التعليم، وتسنموا بموجبها مختلف المناصب، وقبلتهم أرقى الجامعات العلمية في كل أنحاء العالم، حتى لقد روى لي أحد العاملين في إحدى ملحقياتنا في الغرب اطمئنان الجامعات (الكندية) إلى حملة الشهادات الطبية من جامعاتنا. وما على المرتابين إلا أن يجيلوا أنظارهم في جامعاتنا ومستشفياتنا وسائر المواقع العلمية والعملية: التشريعية والتنفيذية ليروا أبناءنا من حملة الشهادات الجامعية. فهل تكفلت جامعات العالم ومدارسه بتعليمنا؟
نقول هذا، ونحن على يقين من قيام الحاجة الماسة والملحة إلى النظر الشامل إلى مناهجنا، وتلافي ماينقصها، وعلينا قبل البدء في النقد تحديد مواطن الضعف ومصادر الخلل، وإرشاد المسؤول إليها، وحمله على مباشرة التصحيح، دون أن نشيع الخطأ، أو أن نضخمة، أو أن نمعن في السخرية والتيئيس، أو أن نركن إلى الإطلاقات والتعميمات، ودون أن تأخذ المسؤول العزة بالإثم، إذ لانريد أن نكون ك (غزية) وشاعرها الذي أبان لها النصح، فلم تستبنه إلا في ضحى الغد.
للحديث صلة
|