Monday 10th february,2003 11092العدد الأثنين 9 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
الحج والعمق التاريخي
عبدالرحمن صالح العشماوي

للحج عُمق تاريخ بعيد المدى، وله بُعدٌ حضاريٌ فسيح الآفاق، فهو موسم الأنبياء كلّهم، وهو الركن الشرعي الذي يحتاج الى تجهيز خاص يتمثّل في كل ما يحتاجه المسافر من الزاد والراحلة، والقدرة المالية والصحية، ووجود الوليّ بالنسبة الى المرأة، وهو الركن الذي يحتاج الى جهد بدني كبير، والى أخلاق حميدة تسع مَنْ يلتقي بهم الحاج من البشر، والى سعة صدرٍ وصبرٍ على العناء الجسدي والنفسي الذي يسببه السفر، ومشقّة الطريق، وازدحام الناس، واختلاف طباعهم ومشاربهم وأفكارهم.
الحج ركنٌ من أركان الاسلام الخمسة تتجلّى فيه جوانب الانسان الروحية والمادية، وتُصقل به طباعه، ويعلّم الانسان معنى الإيثار والتعاون، ويدرّبه على النظام، والدّقة في المواعيد، وعلى اطلاق اللسان بالذكر والتكبير والتلبية والدعاء، ويقرّب الانسان من فطرته السليمة بعيداً عن التّعالي، والعُجب، والغرور، ويذكّر الناس بحقيقة الحياة الدنيا الفانية بما يتيحه من فرصة التأمّل للمشاعر الطاهرة، ولجبال مكة وأوديتها التي شهدت من الأجيال المتعاقبة، والأمم المتتابعة، وأفواج الناس التي مرّت بها في هذا الموسم العظيم، ما يقرّب الى الأذهان الحائرة، والنفوس الغافلة صورة الموت التي لا مناص منها.
الحج ركن مبارك يشعرنا في كل عام، بأهمية جمع الشمل، وتوحيد الصف، وتقارب النفوس، وتآلف الأرواح، ويدعونا الى دراسة أحوال المسلمين في أنحاء الدنيا من خلال هذا اللقاء الكبير بين جماعات منهم تفد الى هذه البقاع الطاهرة لأداء فريضة الحج كل عام.
والعمق التاريخي في الحج ثابت بالكتاب والسنّة، ظاهر في كثير من القصص والأخبار عن الأمم الماضية التي كانت لها علاقة بهذا الموسم العظيم.
فالله سبحانه وتعالى يخبرنا في القرآن الكريم بما أمر به نبيّه أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام من الأذانِ في الناس بالحج بعد أنْ أمره سبحانه ببناء الكعبة مع ابنه اسماعيل عليهما السلام.
{وّأّذٌَن فٌي النَّاسٌ بٌالًحّجٌَ يّأًتٍوكّ رٌجّالاْ وّعّلّى" كٍلٌَ ضّامٌرُ يّأًتٌينّ مٌن كٍلٌَ فّجَُ عّمٌيقُ} .
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يخبرنا ان الأنبياء حجُّوا الى هذا البيت العتيق. ووصف لنا بعضهم، كما ورد في وصفه ليونس بن متى عليه السلام في رحلته الى الحج ، وإخباره عن عيسى وموسى عليهما السلام.
ويبيّن لنا - صلى الله عليه وسلم - أن خير ما دعا به هو والأنبياء قبله في يوم عرفة كلمة الإخلاص وعبارة التوحيد.
إن الحجَّ موسم عالميٌّ كبير، والمسجد الحرام والمشاعر المقدسة مهوى أفئدة الناس، وما من أمةٍ مرَّت بهذا الكون مهما بعدت بها المسافات تجهل شأن هذا الموسم، وهذه البقاع الطاهرة، بل إن بعض أصحاب الديانات المنحرفة كالهندوس يدَّعون صلةً لهم بالكعبة والبيت الحرام منذ آلاف السنين، ومع أنها دعوى باطلة جملةً وتفصيلاً، إلا أنها تدلُّ على ذلك العمق التاريخي الذي يتميز به هذا الموسم العظيم، وهذا الركن من أركان ديننا الحنيف.
ولما لهذا الموسم، وهذه المشاعر من مكانة كبيرة، وعمق تاريخي، حرص العدو الأول للبشر «إبليس» أن يكون له ولجنوده مكان في هذه البقاع، ودور في إبعاد الناس عنها منذ ان حاول أن يصرف ابراهيم عن قتل اسماعيل، واسماعيل عن طاعة أبيه بعد الرؤيا التي رآها في المنام، ولكنَّه خاب وخسر ورجمه ابراهيم وابنه اسماعيل بحصيات في مواضع ثلاثة من «منى» أصبحت سنة متّبعة الى قيام الساعة، فخسر إبليس وجنوده خسارة عظيمة الى الأبد، ولذلك يبدو ذليلاً حقيراً في أيام الحج كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن عباس بن مرداس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء، فأوحى الله اليه: إني قد فعلتُ إلا ظلم بعضهم لبعض، وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم، فقد غفرتها، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته، وتغفر لهذا الظالم، فلم يجبه الله سبحانه وتعالى الى ذلك تلك العشيّة، فلما كان غداة المزدلفة أعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء، فأجابه الله تعالى أني قد غفرت لهم، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله تبسّمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها، فقال: تبسّمت من عدوِّ الله إبليس إنه لما علم أن الله عزّ وجل قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه.
وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم عرفة: أيها الناس إن الله تطوَّل عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التّبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله، فلما كانوا بجمعٍ - أي مزدلفة - قال: إن الله قد غفر لصالحكم، وشفع لصالحيكم في طاليحكم، تنزل الرحمة فتعمهم، ثم تُفرَّق الرَّحمة في الأرض فتقع على كل تائبٍ ممن حفظ لسانه ويده. وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت الرحمة دعا هو وجنوده بالويل والثبور، كنتُ استفزهم حِقَباً من الدَّهر خوف المغفرة فغشيتهم.
إن هذا الاجتماع في هذا الموسم يُعدُّ ذا أهمية خاصّة، وذا قيمة تاريخية كبيرة ولذلك ورد أنَّ الله يُباهي بأهل الموقف ملائكته، ويشهد الملائكة أنه قد غفر لهؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف في موسم الحج شُعثاً غُبراً يبتهلون الى ربهم، ويذكرونه.
وهناك رباط تاريخي آخر يتمثّل في تشابه المواقف، فقد ورد أن ابراهيم عليه السلام حينما «أذَّن في الناس بالحج»، أسمع الله صوتَه كل من كان على وجه الأرض، كما ورد أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم خطب الناس في منى وعلَّمهم مناسكهم فَفُتِحَت أسماع أهلِ منى حتى سمعوه في منازلهم التي كانوا فيها.
ما أعظمه من موسم، وما أكرمه من موقف، وما أجزلَه من ثواب.!!
إشارة:


هاهو الموكب في الوادي يَسيرُ
وإلى الكعبة والرُّكن يُشير

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved