أهداني صديقي الكاتب عبدالله المحيميد كتاباً من تأليفه بعنوان «تقشير»، احتوى على مقالات قصيرة مركزة، عبارة عن قراءات غير نمطية في الثقافة والمجتمع السعودي، وهي مغامرة ذهنية حقيقية وأصيلة يلتقط فيها الكاتب الوشائج بين إحدى الظواهر الاجتماعية وبين أبعادها ودلالاتها الحضارية والإنسانية. وقد شمل مظاهر متنوعة، كثير منها نشاطات بسيطة مألوفة نمارسها بديهياً دون التفات لمضامينها، فقام المحيميد بإضاءة فكرية وهاجة لتثير جانباً كان مهملاً أو غامضاً ومن ثم الخروج بتفسير لها.
ففي الأكل، تناول «كبسة الرز» واستنتج أن انتشارها هو ردة فعل دفاعية منظمة ضد التشتت الغذائي الحديث!! وبمقالة أخرى، تطرق لعودة أكل الجراد لبعض الوقت كرمز دال على الهوية، وفي موضع آخر، حاول تفسير سر البحث عن الفقع، وعن المظهر، تعرض للعبة الشماغ والثوب كلباس شامل وموحد وثابت (فلكلور) وتناقضهما مع الموضة التي تتسم بالتغيير الدائم، ودورهما في التباين الاجتماعي، وتعرض للسبحة وما انتقلت إليه من براءة أصولها الدينية إلى سلة الاكسسوارات، ومقالات في حراثة وفكر الجسد (الوشم، القداح، الأقراط، الحجامة، الخيكري) باعتبار أن السيطرة القانونية تبدأ من الجسد، حسب فوكو.
وفي مقالة عن البخور، رأى أن شيوعه برائحته وشكله البريين التي لم يتم تمدينهما، هو وسيلة شرقية لإخفاء محتويات الشعور الفردي ومصادرة لمتغيرات الروح والزمن. ولأن الوجود حرب تسميات حسب نيتشه، والكاتب مغرم بأصول وتوجهات التسميات، فإن بعض مقالاته بحثت في بعض الكلمات والمصطلحات المتداولة وأبعادها الاجتماعية والحضارية كالجماهير وحنس وتكروني، كما بحث عن سبب تسمية مدارس البنين بالأعلام وغياب الاسم عن مدارس البنات والاكتفاء بالرقم، وانتشار الاستراحات ورفض اللغويين لهذا المسمى وإبداله بالأحواش والمبرر الخفي لذلك.
وقد تغوي الكاتب اللعبة الجميلة للغة في التسمية وأصول الكلمات فيقودها حينا وتقوده حينا آخر، ومن ذلك حفرة لمصطلحات جديدة مدهشة مثل «سوسيو الشم» أورغبات الشعور وحيوية الروح في تأليف العطور ومزجها، ويستهوي الكاتب الرجوع إلى المعنى القاموسي للمفردة الأساسية في مقالته، وذلك بأسلوب لا يخلو من مجازفة وجراءة تستلزم سعة الاطلاع على المعاجم وعلومها (Terminology Lexicology)، وضبط المنهج في الاستخدام، ولعل الأخيرة لم تكن واضحة، فعند رجوعه إلى أصل الكلمة يصعب تحديد الطريقة (Methodology) أو المعيار (Criteria) الذي يستند إليها لتأكيد أو نفي ما يريد، فإن وافق المعنى مراد الكاتب استند عليه مباشرة كدليل إثبات قد لا يخلو من التبسيط غير المبرر، كما في كلمات: «البخت، المعيارة، العسة»، ولكن أحيانا يسوق المعنى بلا صلة منطقية واضحة مع المراد عدا الإغواء القاموسي مثل «الكبسة، المسيار»، أو يعرض معنى ملتبسا لا علاقة له بالكلمة المرادة مثل «خيكري» ولا جدوى من عرضه سوى الفتنة اللغوية. وفي حالات نادرة يكون المعنى مناقضاً لمراد الكاتب ومع ذلك يستند عليه كدليل إثبات بعد إجراء تحسينات منطقية، لكن ليس بالضرورة تكون موضوعية، مثل كلمة «حنس». وتبحث بعض المقالات في تأثير ظواهر قديمة، مثل وجود العمدة كنتيجة للفراغ القانوني الذي يحدد العلاقة بوضوح بين الفرد والمجتمع والدولة، والازدواجية الظاهرية في العمل الأمني بين رجال العسة والشرطة، وهناك أفكار تصدم القارئ العادي، مثل أن المجرم بأفكاره الجرمية لا يختلف عن المثقف وما يحمله من أفكار تنويرية، كلاهما يحدثان ديناميكية داخل المجتمع، رغم نبل المسعى لدى المثقف، وأن الإبداع ليس في الأدب والفن بل أيضا في السرقة التي قد تثير الفتنة والخيال لدينا، كما تناول ظواهر جديدة على مسرحنا الاجتماعي، كالصالونات الأدبية ورأيه في طريقتها التي انتشرت باعتبار صاحبها متخماً مالياً لم يبق له إلا الوهج الثقافي، بالإضافة للعديد من الظواهر الأخرى: مسلسل طاش ما طاش، ومسلسلات فقاعات الصابون، الإعلان، ونكاح المسيار. غياب بعض الظواهر عن مجتمعنا تم التطرق إليها أيضا، كغياب الرموز المشهورة في المجتمع عن دائرة الأنشطة المدنية واقتصار أنشطتهم على مجالهم وأخذ ماجد عبد الله نموذجا، وغياب الفلسفة والحاجة إلى التفلسف، لأنها قادرة على أن توحي بكثير من صور الإمكان التي توسع من عقولنا وتحررها من عقال العرف والتقاليد، كما ذكر رسل، وغياب لعبة الشطرنج في مجتمعنا، وعلاقة ذلك بالذهنية التي تعتمد على التقدير والحظ كما في البلوت واسع الانتشار، لا التدبير والتخطيط كما في الشطرنج، وفي الأخير هناك مقالة طويلة بعنوان من العكس إلى الصورة يتناول فيها مجتمع مدينة بريدة النجدية نموذجا، من خلال قراءة في علاقة النص والمجتمع بالصورةومعطياتها،من الملاحظات التي يمكن تسجيلها، هي اليقينية والصيغ القطعية التي يكثرمنها الكاتب عند استنتاجاته واستدلالاته، رغم أن النسبية والشك والاحتمال سمات أساسية في العلوم الإنسانية (كالاجتماع والنفس) على عكس العلوم البحتة، فقلما نجد كلمات مثل : قد، ربما، من المحتمل.. وترصد هذه اليقينية في نهاية كثير من مقالاته مثل مقالة المعايرة: «إذاً، المعايرة قامت بدورها كما يجب في لجم كل من يخالف السستم الاجتماعي آنذاك»، ومثل مقالة زواج المسيار: «من هنا كانت سرية هذا الزواج، والمسيرة على الطرف الآخر..» كتاب تقشير جدير بالقراءة لما يحويه من متعة التأمل الذهني والتعمق الفكري، والتصورات الجديدة التي يباغتك بها الكاتب في قراءته للمجتمع السعودي، وسواء كنت تعارض أو تتفق مع كثير مما جاء في الكتاب، فإن طريقة العرض الفريدة من معطيات وبراهين وإحالات فكرية وفلسفية واستدلال ونتائج واستنتاجات يمكن الاستفادة منها وتوظيفها في كتابة وقراءة جديدتين مبدعتين تفتحان مجالاً واسعاً لفهم واقعنا وإثارة أسئلة سليمة، ومن ثم استدعاء مقترحات الإجابة والحل.
|