أشرقت شمس الحياة ذات يوم من الأيام على بلد من بلاد العرب طبيعته خلابة، وشدت الأطيار تغرد مع إشراقة ذلك اليوم وتسبح بحمد ربها، وتنفس الصبح، وتفتحت الأزهار، وسُمِع خرير الماء من خلال الجداول المائية وبدأت الكائنات يومها بنشاط وحيوية. كان ذلك البلد مكتظاً بالسكان وكان وسط السوق مجمعاً لأهل ذلك البلد الريفي الصغير حيث انهم يجتمعون لشراء حوائجهم ومستلزماتهم ويتبادلون الأحاديث ويتناقلون الأخبار فيما بينهم ويتجاذبون أطراف الحديث. وحدثت حادثة غريبة في ذلك الريف حيث شوهد أحد الغرباء يحضر في السوق لأول مرة يمشي على استيحاء تبدو عليه علامات التعب والارهاق.. والإعياء فامتدت إليه أنظار أهل القرية فزاد ذلك من خجله وحيائه، فمشى وجلس في طرف من أطراف السوق ثم سقط بعد ذلك على الأرض فجأة من شدة الاعياء وكثرة التعب، ثم تدارك نفسه وقام من سقوطه، فقدمَ إليه أحد سكان ذلك الريف وحياه بتحية طيبة مباركة فرد عليه ذلك الغريب بتحية أحسن منها، وقام ذلك الرجل بدعوته إلى بيته فأبى ذلك الغريب أول الأمر ولكن صاحبه أصر وألح عليه فأجابه وذهب معه إلى بيته فوجد من الحفاوة والتكريم ما جعله يأنس بمكوثه في تلك الدار، ولما تناولا الغداء بادره صاحب الدار بالسؤال عن اسمه قائلاً: ما اسمك؟ فقال اسمي أحمد. وقال له صاحب الدار وأنا اسمي عمر، ثم سأله من أي بلد أنت؟ فقال من إحدى البلدان المجاورة!!. ثم قال له: أي أمر أتى بك إلى بلادنا يا أحمد؟ فقال أحمد: أتيت هارباً من بلدي أبحث عن أهلي. فقال له صاحب الدار: وهل أهلك يوجدون في بلادنا؟ فقال أحمد: أعتقد ذلك ولي قصة طويلة يا عمر، فقال له عمر: وما قصتك؟ فبدأ يسرد أحمد قصته قائلاً: لقد عشت طفولتي سعيداً مع أسرتي المكونة من والدتي ووالدي وأخي الأكبر وأخوين صغيرين، لا يمر يوم من الأيام أكبر فيه إلا وتكبر وتعظم المحبة بيننا وما زالت الأيام تمضي والسنوات تتابع وعمري يكبر ولما وصلت إلى المرحلة الثانوية دخلت إلى القسم العلمي وتفوقت على أقراني حيث إنني مصر على دخول كلية الطب، وكان والدي يسميني ويطلق عليّ الدكتور إذا أراد مُناداتي. وبالفعل دخلت كلية الطب وكنت ألقى مزيداً من التشجيع والتحفيز من والديّ الكريمين الأمر الذي يجعلني أقطع سنوات الدراسة بتفوق وجد حتى ان سنوات الدراسة مرت عليّ بيسر وسهولة وتبقى على تخرجي فصل واحد من كلية الطب ودخلت المنزل عشية يوم من الأيام فسمعت نقاشاً هادئاً بين والدي وسمعت والدي يقول لوالدتي ماذا لو عرف أحمد حقيقة أمره وعرف أنه ليس من أبنائنا وأننا قد أخذناه من دار الأيتام؟ فقالت أمي: ومن الذي سيخبره بذلك يا رجل؟ فسقطت مغشياً عليّ وفقدت الوعي وكان لسقوطي صوت جعل من في الدار يشعر به فتبادر الجميع لمعرفة الأمر فوجدوني مغشياً علي فاتصلوا بالإسعاف لإنقاذي وأسعفوني ولما أفقت من غيبوبتي أخذت أراجع نفسي هل استمعت من ذلك الرجل ما قاله أم أنه خيال أم أنه وهم؟ فأرجأت ذلك الأمر لحين شفائي من مرضي وتحسن حالتي، ولما تحسنت حالتي طلبت من والدتي أن أحادثها على انفراد فأجابتني لذلك فسألتها عما ذكر والدي عن حقيقة أمري واستحلفتها بالله فتلعثمت في الحديث وحاولت الهروب ولكني أصررت عليها وقلت لها من أكون؟ فبكت بكاءً حاراً وارتجفت ارتجافاً حتى كادت روحها تخرج من شدة البكاء فأشفقت لحالها وحاولت تهدئتها وهدأت بعض الشيء وبدأت نظراتها تتقلب وحاولت التهرب من سؤالي. لكنني أصررت عليها إصراراً فما زالت تحاول الهرب من ذلك السؤال وحاولت إيهامي أن ما ذكرت مجرد خيال ولا حقيقة له فتنفست الصعداء ورجوت أن يكون الأمر كما ذكرت والدتي. وبعد عدة أيام عاد إليّ الشك من جديد فقررت مصارحة والدي فذهبت إليه في الحديقة فوجدته مستغرقاً في قراءة القرآن الكريم يقرأ سورة فصلت يرتلها ترتيلاً ، فكرهت أن أقطع عليه قراءته فلما انتهى من قراءته، ألقيت عليه التحية وقبلت رأسه ويده فرد عليّ التحية والسلام. ثم استأذنته في الكلام فإذن لي بالكلام، فقلت يا والدي العزيز لقد سمعت منك يوماً من الأيام حديثاً تسرُ به إلى أمي تقول فيه انني لست ولداً لكما وأنكما أخذتماني من دار الأيتام وأنا صغير، فهل هذا الكلام صحيح أم أن الأمر غير ذلك؟ فتغير لون وجهه وانحبست الكلمات في حنجرته وانعقد لسانه ورأيت دمعة كادت تسقط على خديه إلا أنه غلبها وأخفاها وتصبصب العرق من جبينه، وقلت له لقد اخبرتني زوجتك بكل شيء وهي في الحقيقة والواقع لم تخبرني بشيء أبداً ولم تفصح عن شيء ألبتة ولكنني أردت استدراجه واستنطاقه. فقال ما ذكرته زوجتي لك صحيحاً ويقيناً ولك قصة. فقلت له ما قصتي؟ فقال ذلك الرجل: لقد كان لك أسرة مكونة من والديك وأربعة من الأبناء الذكور وبنت صغيرة رضيعة لا يتجاوز عمرها الستة أشهر واسمها الشيهانة وكنت أصغر إخوانك الذكور، وكان عُمرك عامين فأصابك مرض خطير معد وأوصى الطبيب ببقائك في المستشفى وعزلك بضعة أيام وبقيت تحت الملاحظة والعناية في المستشفى مدة من الزمن، وبينما أسرتك في المنزل نائمون إذ بحريق يندلع في المنزل وكان انتشاره سريعاً فالتهم ذلك الحريق كل شيء في الدار ولم يشعر أهلك بالحريق إلا بعد ما عم الحريق المنزل فحاول والدك انقاذ إخوانك ووالدتك إلا أنه لم يستطع لشدة لهيب النار، وبالفعل استطاع أن ينقذ أختك الصغيرة وأخرجها من الدار وكان في وسعه أن ينقذ نفسه إلا أنه حاول انقاذ والدتك وإخوانك فاحترق والدك معهم ولم يسلم منهم أحد، وتفحمت أسرتك جميعاً وماتوا ولم تسلم إلا اختك الشيهانة واسأل الله أن يجعلهم من الشهداء. فقام ولي أمرك وهو عمك الأكبر بأخذ اختك الشيهانة وأبى أن يتكفلك وتركك وحيداً في المستشفى وذلك لخطورة مرضك وخوفه من أن ينتقل مرضك لأبنائه واستحوذ على تركة والدك وباع العقار وسافر إلى بلد عربي مجاور وتصرف فيها بغير حق شرعي حيث ان هذه الأموال حق لك أنت وأختك وليس لعمك فيها حق، وبينما الأطباء قد يئسوا من شفائك إذ برحمة الله تقترب منك وتشفى شفاء أبهر الأطباء وكأنك لم تصب بمرض، ولما تركك أقاربك وهاجروا لحاجة في نفوسهم تم نقلك لدار الأيتام، ومنذ ذلك الحين انقطعت أخبار عمك وعائلته وأختك الصغيرة وقامت زوجة عمك بإرضاع الشيهانة وأصبحت أختا لأبناء عمك. وأردت أنا وزوجتي أن نحتسب الأجر وأن ننال ثواب كفالة اليتيم فقمنا بأخذك من دار الأيتام وقمنا بتربيتك ولنا ولدان ولم نفرق بينك وأولادنا من ذلك الحين. لم أتمالك نفسي فتساقطت الدموع من عيني وبدأت بالنحيب وأحسست أن الدنيا أظلمت في وجهي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت وضاقت عليّ نفسي ولم اتحمل هول الصدمة وعظم الموقف إلا أنني تذكرت قول الله: {وّاسًتّعٌينٍوا بٌالصَّبًرٌ وّالصَّلاةٌ } [البقرة: 45] فاستعنت بالله وتوضأت وصليت ركعتين بخشوع وطمأنينة فربط الله على قلبي وفوضت أمري إلى الله وقررت الذهاب إلى البلد الذي أخبر الرجل بأن عمي وأسرته قد هاجروا إليه وسألت ذلك الرجل الذي عشت عنده عن اسم عائلتنا فأخبرني بالاسم، وطلبت الذهاب معه إلى المنزل لتوديع عائلته فذهبنا إلى منزله ودخلنا ثم أخبرهم الرجل بعلمي بما كان خافياً عني فصمتوا جميعاً وكأنما على رؤوسهم الطير ثم أجهشوا بالبكاء جميعاً وبكيت معهم وأخبرتهم بما قررته فعارضوا الفكرة جملة وتفصيلاً، إلا أنني أصررت ثم ودعتهم ودعوت لهم وذهبت ميمماً وجهي لبلدكم. وبعد ذلك سأله عمر قائلاً: وما اسم عائلتك يا أحمد؟ فأخبره أحمد باسم عائلته. فقال له عمر: أعد الاسم، فأعاد عليه الاسم من جديد فقال عمر متعجباً: سبحان الله ! فقال له أحمد وما الذي جعلك تتعجب يا عمر؟ فقال له عمر: لقد وصلت إلى أقاربك وهم في هذا البلد وسوف أوصلك بإذن الله إليهم حالاً، وأود أن أخبرك أن عمك توفاه الله قبل ما يقارب الشهر وقد حضرت عنده قبل وفاته وقد أخبر عنك ومكان وجودك وأخبر ورثته بما في ذمته لك ولإختك من تركة أبيكم - رحمه الله - وقد حفظ حقكما عند أبناء عمك وهم رجال صالحون وأتقياء، ثم أخذ عمر أحمد إلى أبناء عمه والفرحة تغمر قلب أحمد وتبدو على تقاسيم وجهه، وصل أحمد وعمر إلى دار أبناء عم أحمد وطرقا الباب وفتحت الباب فتاة قد بانت على وجهها آلام الحياة وقسوة الأيام فرحبت بهما أحسن ترحيب وقامت بمناداة أحد إخوانها وأخبرت أن ضيوفاً لدى الباب فخرج أخوها وأدخلهما في المجلس وحضر جميع أبناء عم أحمد في المجلس وقام صاحب أحمد بتعريف أحمد لأبناء عمه فسلموا عليه وعانقوه وابتهجوا بقدومه ثم سألهم عن الشيهانة فأخبروه بأنها هي التي قامت بفتح الباب ثم قام أحد أبناء عمه بإحضار الشيهانة وعرفها بأخيها فتعانق الأخوان وابتهجا ابتهاجاً خفف عنهما أحزان الحياة ومصائب الدهر، ثم استأذن عمر من في المجلس وخرج وعاد إلى بيته. ومكث أحمد عندهم مدة من الزمن وقام أبناء عمه بإعطائه حقه من المال الذي كان له في ذمة والدهم وكان ذلك المال كثيراً جداً وطالبوه أن يسامح والدهم فأخبر أنه لا يحمل في نفسه على والدهم شيئاً أبداً، ثم عرضوا عليه الزواج من أخت لهم فوافق على ذلك وتزوجها، ولكن حلمه الذي كان يحلم به وهو أن يصبح دكتوراً عاد إليه من جديد فقرر العودة إلى البلد الذي كان يعيش فيه ليكمل دراسته وبالفعل عاد إلى بلده ومعه زوجته وأخته الشيهانة واشترى منزلاً قريباً من العائلة التي كان يسكن عندها واوته ورعته وكان يبر في تلك الأسرة وكأنهم أهله ولم ينس لهم فضلهم ومعروفهم. واصل دراسته وتخرج من كلية الطب وأصبح طبيباً جراحاً ماهراً في مهنته وتحقق الحلم الذي كان يحلم به بالرغم من قسوة الأقدار
saad-moyn@hotmailcom
|