هذا الموسم العظيم الذي لا تعرف البشرية مثله بركةً وخيراً وعظمةً، ولا ترى الأرض مثله اجتماعاً كريماً مباركاً لأعداد كبيرة من البشر مختلفي الأجناس والألوان واللغات.
هذا الموسم الذي يكوَّن الركن الخامس من أركان الاسلام، لا يجوز لمسلمٍ مستطيع أن يهمله، وكيف يُهمِل ركناً من أركان البناء الشامخ الذي لا يعرف الكون بناءً اكمل منه وأجمل، ولا أعظم مكانة، ولا أرفع مقاماً.
كثير من الشباب المستطيع يتحدثون عن السياحة وتجاربهم فيها، ورحلاتهم التي لا تكاد تنقطع الى أماكن سياحية قريبة وبعيدة، جيدة وغير «جيدة»، ويعبرون عن المعاناة التي يلاقونها في تلك الرحلات، وعن المكاسب «الوهمية» التي يجدها بعضهم، وماهي الا «مخاسر» لو كانوا يعلمون.
ولكن هؤلاء الشباب «الرحالين» لا يتحدثون عن رحلة أسمى من كل الرحلات، وسفر أرقى من كل الأسفار، أعني رحلة «الحج»، لا يتحدثون عنها لأنها الرحلة الوحيدة التي لم يفكروا فيها، ولم يضعوها في جدول رحلاتهم المتكررة الى هنا وهناك، مع أنها رحلة مفروضة، إذا لم يقم بها المستطيع في حياته فقد هدم ركنا من أركان دينه، وعرض نفسه للوعيد الشديد الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن هؤلاء.
الحج ركن من أركان الاسلام، لا يجوز للمستطيع ان يهمله أو يتركه، وقد قال عمر الفاروق رضي الله عنه عن قوم من المسلمين لم يحجوا مع أنهم يستطيعون الحج: «ماهم بمسلمين، ما هم بمسلمين».
في مجالسنا يطرح سؤال عن الحج، فتكون المفاجأة أن عددا غير قليل من الشباب المستطيع، لم يحج ولم يفكر بالحج في هذا العام مع أن اعمار بعضهم تجاوزت الثلاثين، بل ان بعض الرجال تجاوزوا الأربعين والخمسين، واجتهدوا في حياتهم المادية حتى أصبحوا أصحاب منازل ومزارع وبنين وحفدة ومع ذلك فانهم لم يحجوا.
وهذه الظاهرة موجودة بصورة تلفت النظر، وأنا - بهذه المناسبة - أوجه عناية الاخوة القراء والاخوات القارئات الى هذه المسألة، فسوف يجدون نتائج مذهلة، فلربما كان من أقاربنا الأدنين من لم يحج ونحن عنهم غافلون.
قبل أسابيع توفي أخ عزيز وصديق قريب، من أصدقاء الطفولة - يرحمه الله - بيني وبينه من العلاقة ما يكون - عادة - بين الصديق وصديقه، فما كنا نفترق إلا قليلا أيام الدراسة في القرية، وبعد أن ابتعدت عن القرية لم يكن يمر زمن طويل حتى نلتقي حينما أزور القرية، ومع ذلك فما علمت أبدا انه لم يحج حجة الفريضة حتى مات - يرحمه الله -، وغفل عن ذلك أهله وذووه الأقربون، حتى بعد موته، ولولا رؤيا رأتها امرأة كبيرة السن من أقاربه، رأته فيها يقول لها في المنام: يا أم فلان أنا لم احج فبلغي أهلي ليحج أحدهم عني، وحينما سمع الأهل بالرؤيا، أكدوا أنه - فعلا - لم يحج، ووجدوا لهذا الأمر في نفوسهم غما وحزنا كبيرا.
كم من رجل وامرأة في مثل حالة صديقنا هذا وسنة لم يحجوا؟.
في مجلس ضمني مع بعض الاخوة جرى الحديث حول هذا الموضوع فتبين لنا أن في ذلك المجلس من لم يحج، أو أن زوجته لم تحج، أو أن أخته لم تحج، مع ان الاستطاعة الكاملة موجودة عندهم جميعا، وقد تبين من خلال الحديث عن هذا الموضوع في أكثر من مجلس أن أولياء الأمور - غالبا - لا يلتفتون الى أهمية أداء الحج لأبنائهم وبناتهم مثلما يلتفتون الى تلبية رغباتهم المادية، ومتابعة دراستهم، والعناية بموضوع زواجهم، ويؤكد بعض الآباء انه لم يفكر في هذا الأمر اطلاقا، ولم يوجه احدا من أولاده الذين تجاوزوا العشرين عاما الى الحج مع أنه يعلم أهمية ذلك بصفته ركنا من أركان الاسلام لا يجوز للمسلم المستطيع أن يهمله أبدا.
لقد خطرت ببالي وأنا أتابع هذه المسألة صورة تلك المرأة الافريقية العجوز التي روى ابنها قصتها وهو يبكي فقال: ظلت سنوات طويلة وهي تحلم بالحج وتجمع المال لهذا الغرض منذ اكثر من عشرين عاما، حيث كانت تقتطع جزءا من نقودها القليلة جدا، وتضعه في صندوق خاص بالحج وتعتني به بصورة عجيبة، حتى انه كان أعلى وأثمن شيء عندها، وكانت تنقل ذلك الصندوق من مكان الى آخر حرصا عليه، وخوفا عليه من أن تصل إليه يد طامع في نقوده، ولما اجتمع لها من المال ما يكفي تحدثت معي - والكلام هنا لابنها - في السفر الى الحج، ورافقتها في رحلة الحج وهي تكاد تطير من الفرح وقد ناهز عمرها السبعين عاما، ولما هبطت الطائرة في مطار جدة شعرت ان أمي تكاد تطير شوقا الى هذه الديار الطاهرة، والى الكعبة والبيت العتيق، وبعد ان سمح الابن الافريقي لدموعه ان تأخذ نصيبها من الوقت، قال: وحينما وقعت رجلاها على ارض المطار هوت على الارض ساجدة لله شكرا انها أصبحت على مقربة من مكة المكرمة، سجدت سجدة طويلة وأنا واقف انتظرها، وطالت سجدتها، ولم أرد أن أزعجها فتركتها قليلا، ولكن سجدتها طالت، وقد بدا لي أنها سكنت سكونا عجيبا، فدنوت منها، وناديتها ولكنها لم تجب، وحينما رفعتها وجدتها قد فارقت الحياة - يرحمها الله.صورة واحدة من آلاف الصور المشابهة لمسلمين ومسلمات يحلمون بالحج، وتخفق قلوبهم شوقا إليه، ولكنهم لا يستطيعون، بينما نجد كثيرا من المسلمين في بلادنا وغيرها لديهم القدرة والاستطاعة الكاملة ولكنهم يقطعون آلاف الأميال الى مناطق السياحة في اطراف الكرة الأرضية ويقصرون في أداء هذه الفريضة العظيمة «الحج».
إنها دعوة صادقة الى كل مسلم مستطيع ان يبادر الى اداء ركن الاسلام الخامس قبل فوات الأوان.
إشارة: