الإعلام العربي يشكو من علة مزمنة هي البعد عن الموضوعية والجنوح دائما إلى المبالغة والتهويل يعتقد بعض القائمين عليه أن الحقيقة يمكن تطويعها باختلاف الأسلوب.
فعلو الصوت في نظرهم هو معيار الحق، ويظنون أن المتلقي العربي لا يستطيع تصديق الصوت الهادي الرزين المدعم بالحقائق والمعلومات. فأنت عندما تشاهد محطة فضائية ترى التشنج والانفعال والعاطفة الجياشة في قول من يتحدث سواء المذيع او المحاور «بفتح الواو»، بعضهم يختلق الحقائق ويفترض افتراضات خاطئة ليصل إلى نتيجة خاطئة بالطبع، لا يقدر المستمع ولا يقدر مستوى وعيه بل يعتقد أنه يصدقه في كل ما يقول ولكن الواقع عكس ذلك. فالملل أخذ يتسلل إلى نفس المتلقي وبدأ يبحث عن مصادر اخرى للمعلومة الصادقة، وبعضهم وجد ضالته في المحطات الأجنبية إذا كان يجيد لغتها والبعض الآخر بدأ يعود إلى المحطات التي تشرف عليها الحكومة فهي اكثر واقعية ورصانة. فمن يشاهد محطات التلفزيون في المملكة أو الكويت أو الإمارات العربية وغيرها يلحظ الاهتمام بالمعلومة الصادقة، والإعداد الجيد للموضوعات الهادفة وعدم استهداف أشخاص أو دول بالأذى او النقد الجارح لأن هذه المحطات لا تقدم الربح السريع وجذب المشاهد على شرف المهنة الإعلامية وسمو هدفها.
وإذا كان للمحطات الفضائية ايجابيات فإنها للأسف قليلة مقارنة بسلبياتها، وكنا نظن بأن هذه المحطات الفضائية وما تملكه من فضاء أرحب في هامش الحرية يمكن أن تغير من النهج الإعلامي العربي الذي تحيط به هالة كبيرة في العرض مع ضآلة المضمون، ولكن الذي حصل الآن هو العكس تماما، الهالة تزداد تضخما والمضمون يزداد ضآلة. تصور عزيزي القارئ أنك حتى عندما تشاهد النشرة الجوية تلاحظ أن القائمين على المحطة الفضائية قد بذلوا جهداً كبيراً في تزيين وجه مقدمة النشرة وإظهار جمالها. وكأنهم يقولون هذا ما يريده المشاهد العربي، وهذا غير صحيح على الإطلاق فجوهر المعلومة مطلوب والمشاهد ازداد وعيه وتطور مستواه العلمي وأصبح أكثر تمييزاً للحقائق، وهذا مالا يدركه القائمون على هذه المحطات الصاخبة إنهم وضعوا سياساتهم الإعلامية على أساس خاطئ وفهم سقيم لواقع الحال. النتيجة هي في انصراف عدد من المشاهدين عن هذه المحطات الى مصادر أخرى للمعلومات مصادر تعتمد على الإحصاءات والمعلومات الموثقة لا على التهويل والدعاية الكاذبة. أنت تشاهد وتستمع إلى المداخلات ومن تتم مقابلته فلا يمكن لك الا أن تصدق أن ذلك قد أعد سلفاً، فالمداخلون تتكرر اسماؤهم وآراؤهم معروفة وهي موجهة لتحقيق أغراض مشبوهة مثل مهاجمة المملكة وسياستها وقادتها وتضخيم السلبيات وغض الطرف عن الإيجابيات، قدعم المملكة للقضية الفلسطينية مادياً ومعنوياً لا يساوي شيئاً في نظرهم مقارنة مع ما يقدمه الآخرون حتى ولو كان دعماً اعلامياً فقط. والغريب أن هذه المحطات تصر على استضافة هؤلاء لأنها تعرف سلفاً بل ربما أعدت لهم هذه المحطات الفضائية ما يجب أن يقال. موقف المملكة من أحداث المنطقة هو ايضا مثار النقاش والتحليل ولكن للأسف على الجانب السلبي، فإذا أعلنت المملكة عن موقف إيجابي تجاه تجنيب المنطقة أخطار الحرب، سارع أبطال هذه الفضائيات إلى القول إلى أن الموقف المعلن للمملكة هو خلاف مالم يعلن، ولم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد التفكير. كيف يكون للمملكة موقف في السر يختلف عما في العلن؟ هل يريدون أن يقولوا إن المملكة ستستفيد من الحرب لو وقعت؟ لو سألوا هذا السؤال فسيكون الجواب بالطبع ودون تردد ومن ذا الذي يستفيد من الحرب؟ وكيف؟ هل قتل الأبرياء وتدمير المدن وتحطيم الاقتصاد فيه فائدة لأحد وبالأخص المملكة؟ لا اعتقد شخصاً منصفاً مهما حقد على المملكة يمكن أن يرى في الحرب لو شنت - لا سمح الله - مصلحة للمملكة، فلماذا يكون للمملكة موقفان مختلفان، لو تابع القائمون على المحطات الفضائية العربية ومن يستخدمون مداخلاتهم لو تابعوا الإعلام الغربي لوجدوا أن المملكة تلام من موقفها الصريح المعارض للحرب حتى أن بعض المتطرفين من إعلامي الغرب وخاصة في أمريكا يطالبون حكومتهم بأن تعاقب المملكة لموقفها الصلب ضد الحرب، ولكن كما يقول الشاعر عين السخط تبدي المساويا.. هذا للأسف هو إعلامنا العربي بعد تطوره، ولكن تطوره للأسف ليس سوى تطور تقني فقط في وضوح الصورة والاستفادة من الأقمار الصناعية وغيرها من تقنيات الغرب لا أكثر. اما التطور الإعلامي فأكاد أجزم أنه في أكثر الحالات هو في أضيق الحدود. ترى ما سبب الخلل في إعلامنا؟ هذا السؤال يمكن أن يوجه إلى أقسام الإعلام في جامعات العالم العربي. هل المشكلة في المناهج والخطط الدراسية لهذه الأقسام بحيث انها لا تركز على أهمية المعلومة الصادقة التي تنقل للمشاهد والمستمع والقارئ؟ أليست هذه الخطط تعتمد في أساسها على المنهج العلمي الذي تشترك فيه مع بقية دول العالم؟ بماذا تختلف إذن عن غيرها؟ ما الذي يجعل الإعلامي العربي مختلفا في ممارسة الإعلامية عن غيره، ألا تدرس أخلاقيات المهنة؟ لماذا الإعلامي الغربي يتحمل المشاق ويواجه المخاطر بما في ذلك إمكان الموت في سبيل الوصول إلى الحقيقة. بينما في عالمنا العربي لا تجد هذا التفاني في مهنة الإعلام. بل تجد قلب الحقائق والاستخفاف بعقل المتلقي بترويج الإشاعات وترسيخ نظرية المؤامرة وكيل الاتهامات دون مراعاة لأمانة الكلمة وصدق المعلومة.
السؤال يمكن أن يوجه إلى علماء الاجتماع علهم يجدوا تشخيصا ومن ثم علاجاً لعلة إعلامنا فالوضع يحتاج إلى حل سريع وحاسم والا فإن الأمة ستستمر قيادتها إعلاميا قيادة خاطئة او إلى يأس من جدوى الإعلام العربي. ومع أن العدل والإنصاف يحتم أن نذكر بالتقدير والاحترام الكثير من الإعلاميين العرب الذين لا ينهجون هذا النهج الفج بل يحاولون طرح افكارهم بصدق وموضوعية ولكن صوتهم قد لا يسمع في خضم صراخ المحطات الفضائية كما أن الكثير منهم لا يعطوا فرصة المساهمة في المداخلات والنقاشات التي نراها او نسمعها.مطلوب من المحطات الفضائية العربية أن تعيد النظر في سياستها الإعلامية وتغير من مسارها تغييراً جذرياً يعتمد في أساسه على مبدأ ان المشاهد العربي يريد الحقيقة والمعلومة الصادقة والخبر الموضوعي المعتمد على الدقة والتوثيق بعيداً عن التهويل والاسترزاق الإعلامي الممجوج ومحاولة إرضاء جهات معينة لاهداف شخصية كما يقال لا حباً لعلي ولكن كرهاً لمعاوية، لابد من التغيير والاتجاه الصحيح والاستفادة من الخبرات العلمية في اسلوب الطرح والنقاش والبحث عن الحقيقة، ما نسمعه ونشاهده في بعض المحطات هو نوع من الإشاعات وتضخيم الأخطاء وقلب المفهومات وإيذاء الآخرين والتلقي من مصادر مشبوهة دون تمحيص وتدقيق. إذا أردنا أن نتعايش مع العالم المتحضر فيجب أن يرفع مستوى إعلامنا العربي وان تبتعد فضائياته عن الدعاية الزائفة والكذب المتعمد والنوايا السيئة.
والله من وراء القصد
(*) عميد الدراسات العليا - جامعة الملك سعود
|