إذا كانت المعرفة في جوانبها المختلفة تمثل الزوايا المتباينة للحقيقة التي عن طريقها نستطيع الوصول الى الحقيقة الكاملة، وباعتبار ان الفن كما يقول الفلاسفة الجماليون منفصل عن المعرفة العقلية، وما يتصل بها من البحث العلمي والنظري.
ولعل ذلك بسبب ان طبيعة الفن انما تقوم على التذوق الوجداني والتقدير لكل ما يتصل بالقيم والمعايير الجمالية التي تستند الى الشعور الذاتي والاحساس الجمالي في النفس الإنسانية.
أقول: اذا كان ذلك فإن اصطلاح المعرفة في القرن العشرين قد اتسع مداه حتى اصبح شاملا لشتى اتجاهات الفنون التقدمية المعاصرة. كما يشمل الجوانب الفكرية الاخرى سواء بسواء.
وذلك لأن الفن في العصر الحديث قد صارت له كل مقومات المعرفة وبدلا من ان يقوم الفن كما كان على الدوام يعكس صورا لطبيعة وأشكال الحياة، فقد اصبح يعكس كذلك الاتجاهات العلمية والتأملية وخاصة ما يتعلق منها بأحدث النظريات والآراء التي تمخضت عنها عقول العلماء والمفكرين والفلاسفة.
وبعد ان كانت رسالته قاصرة على التعبير عما يشاهده الفنان في العالم الواقعي فإنه يعمل للتعبير عن المضامين والأفكار والمعاني تلك الاسرار التي تنطوي عليها الطبيعة وما في أعماقها من الحقائق الكامنة، وهذه هي الميزة التي لم تكن موجودة في الفن منذ القدم حتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر حيث كانت الفنون تسير في تيار السطحية وتسجيل التأثيرات الخارجية للأشياء، أو تسجيلها كما هي في الطبيعة.
والجدير بالذكر هو أن ذلك التحول الذي طرأ على مجرى الفن انما نشأ عن بواعث فكرية وسيكلوجية كان لها صدي قوي في تحويل نظرة الفنان عما كان يفتتن به بالأمس من الظواهر السطحية للاشكال الحية والصامتة.
وهذا يؤكد لنا تأكيدا بأن الفن في تطوره وفي شكله الحالي الذي نراه عليه اليوم انما هو نتيجة حتمية فرضها التطور الهائل من الناحية الفكرية والسيكلوجية، وكذلك ما وصل اليه العلم في عصرنا من تقدم.
فالفن كغيره يتأثر الى حد بعيد بمدى ما يطرأ على الأمة او العالم من أحداث، واريد ان أنوه الى نقطة هامة وهي ان أي باحث اذا ما حاول ان يشرح المفهوم الحديث في الفن فإنه لابد من ان يدخل في عموميات وتفصيلات حتى يستطيع ان يصل الى ما يريد، أي ان تفسير ما يراه البعض لغزا محيرا بالنسبة للفن الحديث لا يمكن ايجازه في خلاصة قصيرة تعطي المفهوم الصادق والكامل للفن في مسيرته الحاضرة.
ولكن الواقع انه اذا كان هناك من يريد معرفة الأصول الحقيقية للفن في شكله الحالي فإنه يتحتم عليه ان يسترجع الماضي الفني بأكمله، وهذا لا يتأتى إلا بدراسة التاريخ الفني منذ القدم حتى العصر الحاضر..
|