Saturday 8th february,2003 11090العدد السبت 7 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فضيلة الشيخ عبدالله البسام فضيلة الشيخ عبدالله البسام
تضحية وجهاد في سبيل العلم
فريد بن عبدالعزيز الزامل السُّليم /جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم

(1)
رمز من رموز التضحية، وعلم من أعلام الجهاد في طلب العلم، رجل شق طريقاً صعباً ليلتمس علماً، فخرج للناس بعد زمنٍ، ليروي عقولاً، ويحيي قلوباً، كثير من يجهل ما عاناه ذلك المجاهد، في سبيل طلب العلم.
إنه فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن صالح البسام رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
ولد رحمه الله تعالى في أوائل العقد الخامس من القرن الرابع عشر الهجري، بين عامي 1341 1345ه، في عنيزة، ولد في بيت قد أصاب من العلم والثقافة حظاً، وفي أسرة معروفة بالعلم والأدب، إلا أن الظروف المعيشية لم تكن بذاك.. فوالده رحمه الله كان ضعيف الحال، مثقلاً بالديون، وتوفيت والدة الشيخ وهو صغير لم يبلغ العاشرة، فقامت عليه زوجة أبيه خير قيام، وكان شغوفاً منذ صغره بطلب العلم، فكان كثير الاطلاع في مكتبة أبيه، ثم بدأ بطلب العلم في الكتاتيب، ثم عند الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، وكان من أمارات حرصه، أنه ربما حضر درس الشيخ عبدالرحمن بعد المغرب (المسمى التقرير) ولصغر سنه، وبعد بيته لا يستطيع الرجوع الى البيت، وحشةً من الليل والظلمة، فكان يجمع بعض الحُصُر، فيفترش بعضاً ويلتحف بعضاً، وينام في المسجد الجامع الكبير، حتى يوقظه (الريس) مؤذن الجامع عند أذان الفجر.
ولكن الحال المادية، قد ضيقت عليه، وليس له سبيل الى التجارة؛ فليس لديه رأس مال، فعمد إلى التكسب بعمل يده، مختفياً عن الناس، لما لأسرته من مكانة، فكان يبيع في السوق بعض ما يعمله مختفياً متلثما، مع محافظته على دروس العلم محافظة تامة، وذات يوم رآه والده في السوق متلثماً يبيع، فنهره ونهاه وأغلظ عليه، فوقفت معه زوجة أبيه موقف إحسان ورحمة وبر، لم ينسه لها، فأخذت أساورها ورهنتها عند أحد التجار، واستلفت منه مبلغاً، وأعطته الشيخ، ليستأجر دُكاناً ببعض المال، ويجعل الباقي رأس مال لتجارة يسيرة، وفعلاً، حصل ذلك، وحسنت الحال قليلاً، واستمر على طلب العلم محافظاً مواظباً حريصاً.
حسبُ نساء ذاك الزمان هذا الموقف، دليلا على وفائهن وإحسانهن، لقد حل إحسان هذه المرأة في نفس الشيخ محلاً عظيماً، فلم يرضَ أن تجلس بعد وفاة أبيه إلا عنده، وكانت قد طلبت أن تقيم عند إخوتها فرفض، فاستشقت السفر معه إلى مكة، فقال إن لم تسافري معي فسأنتقل راجعاً إلى عنيزة، فلما رأت إصراره وافقت، وسكنت عنده، وتوفيت في بيته بعد أن أصابها الكبر وشيء من النسيان.. رحمها الله وغفر لها.
(2)
أقول: واستمر على حرصه على الطلب عند شيخه السعدي، حتى افتتحت دار التوحيد بالطائف، فالتحق بها بعد أن استأذن والده وشيخه، وتخرج منها عام 1370ه، ثم التحق بكلية الشريعة واللغة بمكة المشرفة، وتخرج منها عام 1374ه، ورشح أثناء دراسته في الكلية للتدريس في المسجد الحرام، وذلك عام 1372ه واستمر على التدريس حتى وفاته.. ولم ينقطع عنه إلا ثلاث سنوات، إذ عين رئيساً لمحكمة الطائف وذلك من عام 1387ه حتى 1391ه، فأتم مدرساً في المسجد الحرام قرابة خمسين سنة (علماء نجد 1/90 100).
لقد اضطلع الشيخ بمهام كبيرة، فقد اوكل القضاء في المحكمة المستعجلة، وعين عضواً في رابطة العالم الإسلامي، وكُلِّف في الإمام بالمسجد الحرام نيابة عن الشيخ عبدالمهيمن أبوالسمح ثلاثة أشهر، ثم طلب إماما رسميا فلم يوافق، لكثرة مشاغله؛ ولأن الإمامة تستلزم ارتباطا وضبطاً للوقت.. وصار رئيساً للمحكمة الكبرى بالطائف، ثم قاضيا في محكمة التمييز، ثم رئيساً لها، وعين عضواً في مجمع الفقه الإسلامي، وعضوا في هيئة كبار العلماء، وعضوا في المجلس الأعلى لدار الحديث الخيرية بمكة، ورئيساً لجمعية المبرة الخيرية بمكة، ورئيساً للجمعية الخيرية لمساعدة الشباب على الزواج بجدة، وعضواً في اللجنة الشرعية في شركة الراجحي، وعضواً في مجمع الإعجاز العلمي للكتاب والسنة في رابطة العالم الاسلامي، وعضواً في تحديد المشاعر المقدسة ومحارمها، وعضوا في تحديد الحرم المكي الشريف ووضع أعلامه على حدوده، ورئيساً للمكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بجدة.. (علماء نجد 1/90 100).
(3)
وقد ترك الشيخ إرثاً علمياً عظيماً، فقد ألف عددا من المؤلفات، لاقت قبولاً واسعاً، وانتشاراً عظيماً، من أشهرها:
1 رسالة مضار ومفاسد تقنين الشريعة.
2 شرح على كشف الشبهات.
3 حاشية على عمدة الفقه.
4 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، طبع عدة طبعات، وترجم إلى عدة لغات، وقررته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منهجاً لمادة الحديث في معاهدها العلمية (القسم الثانوي).
5 الاختيارات الجلية في المسائل الفقهية.
6 توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام.
7 علماء نجد خلال ثمانية قرون.
8 القول الجلي في زكاة الحلي. وغيرها.
وإن المتأمل ليجد في هذه المؤلفات علما غزيراً، ونظرا ثاقبا، وعقلية فقهية مؤصلة، ممتثلة فيها المنهجية التامة، المضادة للتخبط والانحياز.. ولعلني أستعرض نموذجين من مؤلفاته، أحاول أن أبرز فيهما بعض ما ذكرت، من مقومات العلم العلمي المتقن.
فمن أهم مؤلفاته: علماء نجد خلال ثمانية قرون.. طبع هذا الكتاب أول مرة عام 1398هـ بعنوان: علماء نجد خلال ستة قرون. وطبع الطبعة الثانية عام 1419هـ، وقد أجاد رحمه الله في هذا الكتاب من نواحٍ عديدة منها:
1 المادة العلمية.. إن إقليم نجد كما ذكر المؤلف إقليم مهمل متروك، لم يعن به المؤرخون ولا أصحاب السير؛ وذلك لأسباب سياسية وجغرافية متعددة.. ولذا فلم يجمع تاريخه، ولا تاريخ علمائه، ولم يبق ممن يحفظ هذا التاريخ إلا صم الجبال، وذرات الرمال العائمة في مجاهل الصحاري والقفار، وهذه الفترة لا يجدي فيها التنقيب، ولا تسعف فيها الحفريات، إلا أن يكون أثيرها الصافي لا يزال يحمل في موجاته أنغام الحداة، وأسمار المجالس، وأحاديث الرعاة، وصليل السيوف، وقراع الأبطال، وحمحمة الجياد.. (علماء نجد 1/12). ولذا فقد كان جمع المادة العلمية صعبا جدا، فهي مشتتة بين أوراق متناثرة عند هذا وذاك، وأخبار متناقلة يرويها الأجداد للأحفاد، ولكن الشيخ رحمه الله استطاع بمعونة الله له أن يجمع من ذلك ما ملأ ثلاثة مجلدات كبار في الطبعة الأولى، وستة مجلدات أكبر في الطبعة الثانية، وهذا مجهود عظيم، فالكتاب هو الأول في بابه، وهذا مما جعله أعظم نفعاً، وجعل جمعه أعسر تأتياً.
2 تحري الدقة والضبط. فلقد اعتنى الشيخ بالدقة عناية كبرى، وحرص لتصحيح المعلومات حرصا عظيماً، ولقد أدركت هذا ورأيته بعيني، فحينما أراد ترجمة الشيخ علي بن محمد الزامل رحمه الله المتوفى عام 1418ه، اتصل علي عدة مرات، يسأل عن أشياء دقيقة، وكنت أظن أني أنا مصدره الوحيد، فلما تباحثت مع أحد طلبة العلم وجدته قد سأله أكثر مما سألني، ووافاه ذلك المسؤول بأكثر مما وافيته به، ثم أخبرني الشيخ نفسه وهو يتأكد من بعض المعلومات أنه اتصل على أخت الشيخ علي المقيمة في مكة وسألها عن كذا وكذا.
إن أثر هذا الحرص الشديد على الضبط قد ظهر ظهوراً جليا في طبعة الكتاب الأولى، ولكنه تخلف بعض الشيء في الطبعة الثانية، وأرجع ذلك الى عامل واحد فقط، وهو كبر السن، فرقٌ كبير بين مؤلف في قمة نشاطه بين الأربعين والخمسين، في أعلى هرم علمه، وأرفع درجات نضجه، ومؤلف في أخريات الستين وأوائل السبعين، إن لم يفقد من ذاكرته شيء فقد شطراً من قوة بدنه، وأني لأرى أن (علماء نجد خلال ستة قرون) كتاب بذاته و(علماء نجد خلال ثمانية قرون) كتاب آخر، لأن لكل منهما ميزاته وخصائصه، فإذا تميز الأول بالدقة والضبط، فإن الثاني يتميز بالجمع والإحاطة، التي لم يسبق إليها، إن تراجم الطبعة الأولى قد بلغت 338 ترجمة، أما الثانية فقد حوت 900 ترجمة، وهذا فرق كبير، يخول الثانية أن تكون كتاباً مستقلاً بذاته، وخاصة أن العنوان قد تغير أيضاً.
3 الصدع بالحق وعدم المجاملة، التي تخفي بعض الحقائق، وتزيف بعض المناقب، لقدكشف الشيخ رحمه الله عن معالم بارزة، لم يكن ليوضحها غيره، أحب أن أحيل الى شيء منها حرصا على الاختصار، فلينظر (علماء نجد خلال ثمانية قرون 3/399 السطر 3، 4/324 وما بعدها، 5/180 السطر 10) وغيرها.
4 الأسلوب العذب، والانتقاء الدقيق للألفاظ، مما ينم على ثقافة أدبية عالية، ومقدرة لغوية فذة، وكثيرا ما تظهر هذه المقدرة إذا نأى المقام بالمقال قليلا عن العلم البحت، وانثنى إلى التأمل والوصف، ينظر مثال هذا (1/10 وما بعدها) وقد نقلت آنفاً طرفا منه.
(4)
أما النموذج الآخر، فهو كتابه (توضح الأحكام من بلوغ المرام) إنه آية ظاهرة على مقدرة علمية عظمى، وحديثي عنه سأجمله في ثلاث مسائل:
1 المنهج، فقد سار على منهج متقن، حوى ما يحتاج إليه الباحث في الحديث، ودل هذا على مقدرة فائقة، في علوم الحديث، والفقه، واللغة، لقد كان يقسم شرح الحديث الى مسائل عدة، فيبحث أولاً في درجة الحديث، باذلا وسعه في تحديدها، وذلك إذا لم يخرج في البخاري أو مسلم أو فيهما، ثم يتبع ذلك بشرح المفردات اللغوية، معتنيا بالضبط، ثم يبين ما يستنبط منه من فوائد وأحكام.
2 البحث في القضايا المعاصرة، فقد بذل جهدا جبارا في تحرير القضايا المعاصرة، وبيان أحكامها، وما صدر فيها عن المجامع الفقهية، وما أفتى به العلماء المعاصرون، ينظر في هذا (توضيح الأحكام 4/10، 11، 13، 19، 75) وغيرها كثير، وإن هذه الميزة لتجعل للكتاب أهمية كبيرة، ومكانا مصدرا بين أمثاله.
3 ورسالة الشيخ (القول الجلي في زكاة الحلي) كانت جزءا من هذا الكتاب، ولكنه لما رأى أن الحديث فيها قد طال أفردها برسالة خاصة، وقد احتوت هذه الرسالة، على صغرها، مباحث دقيقة، في تناول الأدلة من الكتاب والسنة، وأوجه الاستدلال بها، والبحث في تصحيحها، وتصحيح الاستنباط منها، كما حوت اعتراضات وإجابات، وختمها بخلاصة قرر فيها ما اختاره، وهذا قول نرجو الله تعالى أن يكون سديدا بعيدا عن الشدة في إيجاب ما لم يجب، وبه ضبط للمتهاونين والمتساهلين عن التذرع إلى تعطيل زكاة الأموال بدعوى حلي اللبس (القول الجلي: 44).
(5)
وكان لدروسه قبول واسع، وشهرة كبيرة، لما يبعث فيها من فوائد، ولأنها تصلح لطبقات المجتمع كافة، وكان بعض منها ينقل عبر الإذاعة، كما كان يشارك في برامج الإفتاء في الإذاعة والتلفاز.. وكانت لغته عامية في غالبها، وهذا وإن عدت الفصحى وهي اللغة القرشية التي نزل فيها القرآن أكمل وأحسن، إلا ان لغته لم تجاوز العربية بلهجاتها، ولئن استعذبت اللهجة الشامية من لسان فضيلة الشيخ علي الطنطاوي، واللهجة المصرية من لسان الشيخ محمد الشعراوي، فإن اللهجة القصيمية لأعذب مخرجا وأندى جرساً من لسان الشيخ عبدالله البسام، رحمهم الله جميعا، كيف لا وهذه اللهجة امتداد للهجات العربية القديمة، التي أثبتها سيبويه في كتابه، وغيره من العلماء، بل جاء القرآن الكريم بما وافقته هذه اللهجة، فمن ذلك، الوقوف على نون الوقاية بالسكون، وحذف ياء المتكلم، وقد جاء في قوله تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} (هود: 55) وقوله: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)[الفجر: 15]، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 16] .. ومن فصيح ما يستعمله العوام في نجد الكسكسة، وهي قلب كاف المؤنثة المخاطبة سيناً، وقد شمل هذا الانحراف في العامية النجدية كثيراً من الكافات، وإن لم تكن ضمير المؤنثة المخاطبة، ومن ظواهر العامية ذات الأصول اللهجية الفصيحة، نقلهم حركة هاء الضمير إلى ما قبلها، فيقولون في اضْرِبْهُ: اضْرِبُهْ، ومن شواهد ذلك قوله: (فقرِّبن هذا وهذا أزحله) الكتاب 4/180.
قلت: ولئن كانت هذه لغة الشيخ في مقاله، إلا أن لغته في كتابته لا تخرج عن الفصاحة قيد أنملة، بل إنها في مستويات راقية من الضبط والإعراب والبلاغة.
(6)
وبعد حياة حافلة بالعلم الدعوة، والجهاد في سبيلهما، أصيب الشيخ رحمه الله بمرض في أذنه، أفقده السمع، وألمه ألما شديداً، ولا يزال به حتى عزله عن الناس، ثم توفي رحمه الله بعد معاناته منه قرابة السنتين، ضحوة يوم الخميس السابع والعشرين من ذي القعدة في هذا العام 1423هـ وصلي عليه في الحرم المكي الشريف، وشيع جنازته جمع كبير جدا، ضاقت بهم السبل المؤدية إلى مقبرة العدل.. أسأل الله أن يرحمه ويغفر له وأن يسكنه فسيح جناته، وألا يكله إلى نفسه ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأن يجعل ما أصابه تكفيراً لسيئاته ورفعة في درجاته، وأن يجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه سميع مجيب.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved