* لندن جالين فرانكل (*) :
في برنامج تليفزيوني ساخر تم بثه مؤخرا في بريطانيا تحت عنوان «بين العراق والمكان الصعب» تم تصوير جورج دبليو بوش على أنه شخص لا يفهم لماذا لا يتعاون صدام حسين مع جدول الولايات المتحدة للحرب، وتم تعريف الديموقراطية الأمريكية في هذا البرنامج بأنها «حيث وجد مرشحان يخسر من يحصل منهما على أكثر الأصوات»، أما عن الدور البريطاني في الحملة العسكرية القادمة فكان شديد البساطة: يتساءل أحد المسؤولين البريطانيين «ما الذي يريده الأمريكان منا؟» ويرد جنرال عسكري آخر «ماذا يريدون منا؟ إنهم يريدون جثثا ميتة».
حليف مخلص
يعد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير هو أكثر الحلفاء الدوليين للإدارة الأمريكية إخلاصا لها سواء في حملتها ضد العراق أو في حربها ضد الإرهاب، ولكن إذا غضضنا الطرف عن بلير ودائرته الضيقة فسوف نلقى نوعاً من الضجر والاستياء يسودان بريطانيا ليس على صعيد الشأن العراقي فحسب بل على قوة الولايات المتحدة وعلى سياستها الخارجية بوجه عام أيضا، وذلك طبقا لما يراه المحللون والمعلقون والسياسيون، فهناك مخاوف من أن تعتزم الولايات المتحدة التصرف دون أن تعبأ بقلق حلفائها كما أن هناك مخاوف من جر بريطانيا خلف الولايات المتحدة على طول الخط، تلك المخاوف سادت وانتشرت حتى أنها قد تخطت الجناح اليسارى المتشدد المناهض لأمريكا لتصل إلى المعتدلين والمحافظين أيضا.
ويذكر رياموند سيتز سفير الولايات المتحدة السابق في بريطانيا أن «القلق في بريطانيا يتحرك بلا شك ليصبح تيارا عاما»، وهو يرى أن النقاش الدائر في بريطانيا في هذا الشأن شهد تحولا، «فلم يعد يدور حول كيف يتم التعامل مع أسلحة الدمار الشامل، أو كيف يتم محاربة التهديدات الإرهابية في العالم، بل بات يدور حول كيفية كبح جماح الولايات المتحدة، كيف يمكن تقييد جليفر؟».
تأييد ضعيف
وتظهر استطلاعات الرأي أن تأييد العمل العسكري ضد العراق يحتل مستوى متدن حتى بين عامة الشعب البريطاني، ولقد كشف استطلاع للرأي أجرته صحيفة الجارديان ومجموعة أي سي إم (ICM) لأبحاث الرأي العام أن 30 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع يؤيدون فكرة العمل العسكري ضد العراق الآن، مقارنة بنسبة 42 بالمائة سجلت في أكتوبر الماضي، كما ارتفعت نسبة معارضة العمل العسكري من 37 بالمائة إلى 47 بالمائة.
ومن الإشارات الأخرى الدالة أيضا على التأرجح المزاجي الذي يسود الشارع البريطاني نذكر الجهود التي تبذلها صحيفة الدايلي ميرور النصفية لزيادة توزيعها من خلال شنها حملة موسعة ضد أي هجوم على العراق، كذلك النجاح الذي حققه عرض مسرحي انتقادي عرض بشمال لندن وبلغ حدا من النجاح وصل إلى درجة بيع جميع تذاكره، وهناك كذلك استمرار حالة الرواج لكتاب «رجال البيت الأبيض الأغبياء» لمؤلفه ميشيل مور والذي ينتقد فيه الولايات المتحدة انتقادا لاذعا.
انتقاد واشنطن
ولقد بدأ انتقاد أمريكا في بريطانيا بموضوع العراق ثم اتسع نطاقه بسرعة ليتطرق إلى توجيه اتهامات إلى واشنطن بأنها تساعد إسرائيل وتحرضها على قمع الفلسطينيين وبأنها ليس أكثر من مجتمع شره يضم بين جنباته السيارات الفارهة والوجبات السريعة والتدهور البيئي، مجتمع يسعى إلى السيطرة على النفط العراقي ذي الثمن البخس لتغذية عاداته الاستهلاكية.
ويؤكد ميشيل جوف كاتب العمود بصحيفة تايمز اللندنية أن: «الناس في أمريكا لا يفهمون أن بلير ما هو إلا شخص منعزل داخل حزبه، بل داخل دولته ككل» فيما يتعلق بالحرب وبالتحالف مع الولايات المتحدة، ويضيف قائلا: «إن النزعة المناهضة لأمريكا تشكل قوة حقيقة ومتنامية في بريطانيا، وهي نزعة بدأت بحجج ضيقة مركزة ولكنها أخذت تتوسع داخل الرسوم الساخرة اللاذعة».
ويصر مراقبون بريطانيون آخرون على أن ما يتنامى في بريطانيا في الوقت الراهن ليس نزعة مناهضة لأمريكا، بل بالأصح هي نقد صحي لقوة عظمى منحرفة.ويقرر جوديفري هودجيسون الصحفي والكاتب المحنك أن «توجيه النقد للولايات المتحدة لا يشكل محاباة لها، فالأغلبية العظمى من الشعب البريطاني يبدي تأييدا إيجابيا ومحاباة للولايات المتحدة، ولكن هناك أيضا أغلبية لا يستهان بها معارضون لجورج بوش»، ثمة قدر كبير من الغضب يستهدف بوش بالأساس، والذي لا تستسيغ الذائقة البريطانية أسلوب حديثه العامي الدارج ولهجة أهالي تكساس التي يتكلم بها، وكان بوش وبلير مادة خصبة لقدر لا بأس به من الرسوم الساخرة، إذ يقول تيموثي جارتون آش مدير مركز الدراسات الأوروبية بكلية سانت أنتوني بجامعة أوكسفورد: «يشكل بوش هبة ممنوحة إلى رسامي الرسوم الساخرة المنضوين تحت لواء النزعة المناهضة لأمريكا، فلو كان بيل كلينتون مازال في البيت الأبيض، فالقصة في اعتقادي كانت ستختلف».
ويصر جارتون آش على أن النزعة المناهضة لأمريكا لا تتحرك داخل التيار الشعبي العام في بريطانيا، فيرى أن «أمريكا تعد بمثابة روما الجديدة ذات القوة المفرطة، وعندما تصبح أنت القوة الاستعمارية، فإنك تحصل على الكثير من المساندة، بيد أنه تجب الإشارة إلى أن كل هذا لا يشكل على الإطلاق صدام حضارات بين أوربا وأمريكا».
وتختلف المعارضة الأوروبية للولايات المتحدة عن تلك المعارضة الموجودة لدى حلفاء أوربيين آخرين مثل فرنسا والتي لها علاقات متشابكة مع الولايات المتحدة، ومثل ألمانيا، بما تحمله على كاهلها من بغض للحرب منذ الحرب العالمية الثانية.
وعلى النقيض تمتلك بريطانيا تقاليد عسكرية مشابهة لتلك التي تمتلكها الولايات المتحدة، كما ظلت علاقاتها بالولايات المتحدة أحد أكثر العلاقات الودية استقرارا.
وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2002 كان بلير من أوائل الزعماء الأجانب الذين عبروا عن تعاطفهم وتضامنهم مع الولايات المتحدة، وكان يجلس إلى جوار لورا بوش خلال الكلمة التي ألقاها الرئيس بوش أمام الكونجرس فيما يتعلق بالهجمات.
وظهرت الملكة إليزابيث الثانية أمام العيان في ذكرى ضحايا الهجمات والدموع تفيض من عينيها مع غيرها من النائحين.
ولكن على الدوام كانت في بريطانيا وجهة نظر بديلة مؤداها أن الولايات المتحدة قد نالت ما تستحقه، وأنها حصدت عقودا من تجاهل الضيم والإجحاف اللذين يعاني منهما العالم الثالث.
وفي حلقة نقاشية تليفزيونية أذاعتها شبكة البي بي سي عقب هجمات 11سبتمبر بيومين أطلق جمهور الحاضرين سيلا من الملاحظات العدائية على سفير الولايات المتحدة السابق في بريطانيا فيليب لادير وأخذوا يسخرون من إجاباته، وفيما بعد كتبت كاتبة العمود ياسمين علي باهي براون والتي كانت أحد المشاركين في النقاش قائلة: «نحن نشاطركم أحزانكم تماما، ولكن عليكم أنتم أيضا أن تشاطرونا قلقنا».
وكتب الكاتب الروائي جون لو جار في مقال له بصفحة الرأي بصحيفة التايمز ان: «أمريكا دخلت أحد فترات جنونها التاريخى، وهى تشكل أسوأ فترة في تاريخها، أسوأ من المكارثية ومن أزمة خليج الخنازير، بل ربما أسوأ من حرب فيتنام».
أما اليسار البريطاني والذي درج على شن حملة منظمة ضد الولايات المتحدة منذ حملة نزع الأسلحة النووية وحرب فيتنام فيزيد من وطأة الاستياء البريطاني من أمريكا على نحو كبير، ففي كلمة ألقاها الكاتب المسرحي هارولد بينتر انتقد علانية «الهستيريا الأمريكية وما تتسم به أمريكا من تجاهل وغطرسة وغباء وطابع عدائي»، ولكن القلق والضجر يسود أيضا أوساط المؤسسة الرسمية، ومن بين هؤلاء مخططي ومنفذي مسألة تورط بريطانيا في صراع الخليج عام 1991 بما فيهم وزير الخارجية الاسبق دوجلاس هيرد، ووكيل وزارة الدفاع السابق ميشيل كوينلاند، اللذين عبرا عن تحفظات عميقة بشأن الحملة الجديدة على غرار أولئك الذين عبروا عن تحفظهم بشأنها في الولايات المتحدة من أمثال الجمهوريين ذوي الخبرة مثل برينت سكوكروفت وجيمس بيكر.
ولقد تساءل هيرد في معرض تعبيره عن رأيه عما إذا كان الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين سوف يجعل العالم أكثر أمنا من شبح الإرهاب أم أنه سيفجر المزيد من الهجمات، خاصة في حالة عدم اتخاذ خطوات لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والشهر الحالي، عند ما يبدأ اتحاد أوكسفورد في مناقشة قضية بعنوان: «الولايات المتحدة الأمريكية أكبر عائق أمام السلام العالمي»، فإن أحد الذين سيتحدثون هو بول روبينسون المحاضر في الدراسات الأمنية بجامعة هول، وهو ضابط مخابرات حربية سابق يطلق على نفسه محافظ يمين وسط، ومع أنه من المؤيدين للولايات المتحدة إلا أنه يقرر أن إدارة بوش تدمر الإجماع الدولي الذي شهد استقرارا لفترة طويلة، حيث إن الدول لا يجب عليها أن تشن الحرب ما لم تكن معرضة لتهديد خطير، ويقول عن الولايات المتحدة وبريطانيا «لقد أصبحنا مجرد معتدين»، وعلى صعيد الأمريكان الموجودين في بريطانيا فيقولون انهم يلقون ترحيبا فيها، ولكنهم يستشعرون وجود اتجاه متزايد لاتخاذ موقف معادي للحرب على العراق.
وعندما وصل كل من ميلفين ليفلير أستاذ التاريخ بجامعة فيرجينيا وجون أرثر أستاذ الفلسفة بجامعة بينجهامتون بنيويورك إلى بريطانيا في الفصل الدراسي الماضي لقضاء عام من التدريس بجامعة أوكسفورد، ذهبا لزيارة صديق لأرثر وقضوا جميعهم معظم الأمسية في الجدل بشأن العراق، ويقرر ليفلير قائلا: «لقد صعقت عندما أدركت أن الناس هنا في بريطانيا يبدون تخوفا من القوة الأمريكية يفوق درجة تخوفهم من ظلم وبشاعة نظام حكم صدام حسين».
ويقول السفير الأمريكي السابق سيتز إن مخاوف البريطانيين ممزوجة بإدراكهم أنهم لم يعد لديهم سوى قدر ضئيل من السيطرة على ما يحدث أو أنهم فقدوا السيطرة عليه تماما، فعلى حد قوله «وجد البريطانيون أنفسهم في النهاية لا يتحكمون في مصيرهم، فهم قد ربطوا عربتهم بالقوة الأمريكية الجامحة، كما أن القرارات التي يمكن أن تعرض القوات البريطانية للخطر باتت تتخذ بشكل أساسي في واشنطن وليس في لندن».
ويعتقد القليل من المراقبين أن حالة القلق السائدة في الوقت الراهن تشكل خطرا سياسيا جديا بالنسبة لبلير والذي يمتلك حزبه، حزب العمال الحاكم أغلبية كبيرة في البرلمان ويسانده في الموقف المتعلق بالشأن العراقي زعامات المعارضة من المحافظين، ولكن إذا ما فشلت الولايات المتحدة في الحصول على تأييد مجلس الأمن لعمل عسكري، أو إذا ما تم عرقلة الحملة العسكرية لأي سبب، فسوف يواجه بلير متاعب جمة.
ويؤكد أحد المحللين أن بلير يحتاج إلى دفع بوش نحو طريق الأمم المتحدة للحصول على قدر أكبر من المصداقية، فبلير على حد تعبير جارتون آش «يجب أن يكون بمقدوره قول: إننا نفعل ذلك في إطار الأمم المتحدة».
(*) عن «واشنطن بوست» خدمة الجزيرة الصحفية
|