قررت مرافقة أحد الأخوة، لزيارة إحدى المكتبات الجديدة في الرياض بعد أن سمعت منه مرافعة، يعلن فيها، أن المجتمع يشهد حالة جديدة من الانفتاح الثقافي، وكأني به يقصد بعبارة «انفتاح ثقافي»، إزدياد التوجه نحو القراءة خارج النص أو المنهج الذي تربينا في ظله، وتحت رعايته، وتعلمنا في فصوله القيم والأخلاق والتعاليم الإلهية، وبروز رغبة جديدة في البحث في أغوار الإنسان، والتعرف على ماهيته وصفاته في كتب الاجتماع والتاريخ.، وبالفعل، كانت المكتبة زاخرة بشتى مجالات التنوع في الطرح الثقافي، وخصوصاً في علوم الإنسانيات، وما يتعلق بشؤون «الإنسان» وفلسفته وتاريخه وصراعاته، وحقوقه، والأرقام تتحدث عن مبيعات عالية للكتب، بالرغم من عدم توفر إحصائيات دقيقة عن النوعية التي يقرؤها المجتمع في ظل المستجدات الحالية.
والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً في ظل المتغير الجديد، هو.. هل للثقافة أو الفكر عامل مهم في دورة الحياة وصراعاتها؟،.. ولكن لا توجد إجابة محددة على هذا التساؤل، بينما ظلت محاولات البحث عن دور للثقافة والفكر موضع اختلاف بين المفكرين، فالمدرسة السلوكية نظرت للإنسان باعتباره آلة بيولوجية تستجيب لما حولها من مثيرات فحسب، وقضايا التفكير والقيم والمشاعر مسائل هامشية في تفسير الظواهر الاجتماعية أو السلوك الانساني، والحياة صراع على القوة، لا شأن لها بالفكر والفلسفة، لتصبح الأفكار والأيدلوجيات غطاء يستر خفايا الصراع الدائر في الحياة السياسية.
وهناك من يرى أن الأفكار والقراءات الثقافية الجديدة، هي مصدر الفعل الإنساني، وأن العالم تحكمه مجموعة أفكار نظرية، وليس مجرد قوى الصراع المادي، وعلى ذلك، فالرأسمالية الحديثة نبعت من الأفكار الاقتصادية الأولى لآدم سميث وديفيد ريكادرو، وآلة الشيوعية السوفيتية هي ثمرة لأفكار كارل ماركس ولينين، وتاريخ النازية في ألمانيا لا يمكن إدراكه إلا في ضوء الأفكار التي نقرؤها في كتاب «كفاحي» لأدولف هتلر.
بينما يرى آخرون، أن كلا الرأيين منحاز وغير دقيق لفهم الحياة، فالأفكار ليست مجرد ردة فعل سلبية لمصالح محددة أو طموحات فردية، بل تحمل قوة وقدرة على التأثير في الفعل السياسي، وبالتالي تغيير الواقع، وفي نفس الوقت، الأفكار السياسية المتجددة لا تنشأ في فراغ ولا تأتي من التأمل، بل هي متأثرة بسياقها التاريخي والاجتماعي، وتنشأ وتتطور في إطاره، وتخدم طموحات وتوازنات سياسية قائمة.
فالكوارث البشرية، قادت الرأسمالية في القرن التاسع عشر، في ظل المتغيرات الاجتماعية، والظروف السياسية، للمساهمة في رواج النظرية الماركسية، والتي منها انبعثت ثورة لينين، والتي أيضاً لأسباب موضوعية، أدى استبداد وفساد تطبيقاتها الى الاحتفال ببريستوريكا جورباتشوف، وإلى نهاية الشيوعية كأيدولوجية سياسية، كما مهدت انتهاكات الحداثة العقلانية في القرن التاسع عشر، البيئة المناسبة لظهور الأفكار اللاعقلانية والتبشير بولادة الإنسان «السوبرمان»، والذي هيأ في النهاية لبروز نجم الفاشية والنازية، كحل قيصري لديموقراطية زائفة، تخدم أقلية سلطوية في المجتمع.
ولم تدم بنيوية الستينيات، حتى أطاحت بها التفكيكية وما بعد البنيوية، والحداثة تتجاوزها في الوقت الحاضر ما بعد الحداثة، لتتسارع ولادة الأفكار، حتى أصبحت تتحدث عن نهاية التاريخ، ونهاية الايديولوجيا، ونهاية الدولة، ونهاية المجتمع، ونهاية الطبقة الوسطى، وأخيراً تم الإعلان عن قرب نهاية «الإنسان» في كتاب فوكوياما الأخير، وعن مخاطر الثورة البيوتكنولوجية، والكتاب يطرح قرب نهاية الأنثروبيولوجيا وإندثار خصائص الإنسان، ويلمح إلى هيمنة الإنسان الغربي بسبب سيطرته على وسائل الثورة المادية والبيولوجية، وتقنيات الاستنساخ، وهو ما سيؤدي إلى انتشار ثقافة «الغربنة» بفضل خروج الإنسان الغربي المتفوق والمستنسخ بيولوجيا.
أما المواطن، والذي بدأ للتو «يفتش» عن الإنسان، ويحاول اكتشافه ومعرفة خصائصه وطبائعه في الكتب الوافدة إلى رفوف المكتبة الجديدة، فهو أحد الأهداف العشوائية للتفوق البيولوجي والثقافي الغربي، وهو أمر يبدو محتملا في ظل عسر المخاض الثقافي العربي، وتفرد الهيمنة الغربية بموقع الصدر في المركزية الفكرية الإنسانية، والمحصلة العلمية، ويساعده في فرض سيطرته، ضعف نشاط الحركة المحلية في البحث عن خصوصية الإنسان وحقوقه، والحفاظ عليها، ثم حمايتها من الانقراض، فالهندي الأحمر انقرض، عندما فرَط في الحفاظ على هويته، ولم تنقذه سياج المحميات البشرية من الاندثار وسط ضجيج إعلام الإنسان الغربي، وطغيان ثقافته.
وشئنا أم أبينا، نحن نقع على أطراف سواحل المركزية الغربية، نردد نظرياته، ونحاول إسقاطها أحياناً بكل سطحية على متغيراتنا الاجتماعية والسياسية، وتلك أحد أهم إشكاليات الوضع العربي الاجتماعي والسياسي، فالطرح النخبوي أو من يدعي امتلاك القدرة على التأثير من أعلى، يحاول تهميش علاقة الفكر بالواقع، ويبشر أحياناً بأن «الثقافة» المجردة ستحل مشكلات الإرهاب والتطرف في المجتمع، وأن الرخاء قادم لا محالة إذا تجرعنا مسلمات الحداثة الغربية كحقيقة مجردة ومطلقة، وتلك فرضية تنفيها مسيرة الأحداث في تاريخ الإنسان.
والمجتمع المحلي الذي يعيش حالة انفتاح ثقافية، لا يزال يواجه صعوبة بالغة في التوفيق بين التراث والتحديث، بسبب بطء تعريب وتوطين عمليات التحديث الملائمة، وعدم الالتفات بجدية إلى مشكلات الواقع، ومواجهة صعوباته، وهو مسار قد يؤدي إلى إعادة إنتاج أفكار جديدة، إذا لم تنطفئ شرارة الفكرة في كهفها السري، أو تخرج بسلام إلى قاعات الطرح الأكاديمي، وبرامج الوسائل الإعلامية، ولن يحدث ذلك بدون البحث عن «الإنسان» أولاً في واقع الحياة، واستيفاء حقوقه، ثم ربطه بماضيه، وفتح افاقه على ضرورة التحديث الملائمة لبدء حضارة إنسانية ذات جذور عربية وإسلامية على أرض وطنه، ثم ضمان أمنه الاجتماعي والوطني، وإذا تعسر مخاض ولادته في الواقع العربي، أو حدثت كارثة اقتصادية أو اجتماعية، سيتم استدعاء الفكرة «إياها» سرياً من جديد، لتبرير مسار حركة سياسية متجددة في البيئة الاجتماعية الخالية من حركة ثقافية رائدة، تقود المجتمع إلى الاستقرار، وتلبي متغيرات التطور والتحديث، والمتابع لجغرافية التغيير في المجتمعات العربية، يدرك أن خروج الأفكار الجديدة، لا يأتي دائما من مسارات العنف أو التطرف، فهناك منْ يُضيء حلقات التجديد الثقافي من خلال مناهج العمل وقنوات المشاركة السلمية، وهناك أيضاً، منْ يجد في استراحة «الدروشة» ملاذه الأبدي من نار جحيم الحياة ومعاناتها،.. والطبيعة البشرية كائن.. يحكمه عامل التاريخ، وأجواء السياسة، وتصنعه تضاريس الجغرافيا وانهارها وكثبانها الرملية.
|