* الرياض - الجزيرة:
الحج ركن من اركان الاسلام وأحد مبانيه مصداقاً للحديث الشريف:«بني الاسلام على خمس.. وحج البيت من استطاع اليه سبيلاً» وهو من اصول الدين وركائز الايمان، فالحج المقبول يجب ما قبله من ذنوب كما ثبت في الحديث الشريف:« الاسلام يهدم ما قبله، والهجرة تهدم ما قبلها، والحج يهدم ما قبله» وصح عن مسلم «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه» و «الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة» فالحج من الاعمال العظيمة التي اذا اداها المسلم كما امر الله وكما شرع رسوله وبنية صادقة، آتت ثمارها الطيبة في صلاح القلب وصلاح الاعمال. لانه من الشعائر العظيمة، والعبادات النافعة التي تجمع مصالح الدين والدنيا للامة، ومنافعها كما قال تعالى: {لٌيّشًهّدٍوا مّنّافٌعّ لّهٍمً..} ويكون تحصل هذه المنافع من استثمار المسلم للحج في اصلاح قلبه وتقوية ايمانه واصلاح اعماله وجميع احواله.
لكن ما هو اثر الحج في ترسيخ الايمان والتدين؟
التلبية من اللب
في البداية يرى فضيلة الشيخ الدكتور ناصر العقل الاستاذ بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية انه لابد ان يجد اثر ذلك في قلبه وجوارحه وسائر احواله، ومن ثم ينعكس ذلك على مصالح الامة كلها، فاذا استقام الفرد ظاهراً وباطناً صلح المجموع، واذا صلح الفرد صلح المجتمع.
لٌيّشًهّدٍوا مّنّافٌعّ لّهٍمً} ومتأسياً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين حج وامر بالحج وشرع جميع اعمال الحج وقال صلى الله عليه وسلم:« خذوا عني مناسككم» وكما يبدو مظهر التسليم والاذعان من المسلم الحاج لربه عز وجل حين يتجرد من ثيابه المعتادة لباسه المألوف ويلبس ثياب الاحرام التي تتميز بالنظافة والنقاء والبساطة والتواضع ووحدة المظهر لجميع الحجاج.
ويضيف الدكتور العقل: ويتجلى الايمان والتسليم والاذعان لله تعالى في اسمى معانيه بالتلبية فالتلبية وهي كما اعلنها رسول الله صلى الله عليه و سلم: « لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمة لك والملك» انها اعلان يجب ان يصدر من اعماق القلب، ويظهره اللسان بصدق واذعان، واعلان بالتوحيد لله تعالى، ونفي الشرك والشركاء والخضوع لله تعالى بالحمد واعتراف بالنعمة والربوبية له سبحانه.
فالتلبية اعلان للاخلاص والتوحيد وبراءة من الشرك وهي كلمة عظيمة لها دلالة كبيرة وكثيرة في تحقيق الايمان والتدين والتوحيد لانها تعني الاستجابة لنداء الله تعالى:{وّأّذٌَن فٌي النَّاسٌ بٌالًحّجٌَ..} كما امر نبيه ابراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام والتسليم والخضوع والذل لله تعالى والاذعان فالملبي هو الخاضع المستسلم كذلك المحبة والاجلال والتعظيم لله تعالي فلا تصدر عبارة «لبيك» الا لمن يحبه ولا يستحق ذلك كمالاً ولا تقديساً الا عز وجل والشعور بأنها تصدر من اعماق القلب.
فالتلبية من اللب، ولب الشئ خلاصته، والتلبية فيها تعظيم لله تعالى وفيها اثبات صفات الكمال لله تعالى والاقرار به مثل الكلام، والسمع، والقرب ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: للذين يبالغون في رفع اصواتهم بالتلبية والدعاء:« اربعوا عن انفسكم فانكم لا تدعون اصماً ولا غائباًَ» يعني ارفقوا في الدعاء فانكم تدعون ربكم السميع القريب سبحانه، علماً بأن رفع الصوت بالتلبية للرجال مشروع لكن من غير مبالغة وتضمنت التلبية كل معاني التوحيد لله تعالى بربويته والاهيته واسمائه وصفاته، وتضمنت كذلك ابطال الشرك والالحاد، واعلان التلبية من المسلم يعني تهيئة النفس للاستجابة لدين الله وشرعه والاستعداد لقبول اوامر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في اعمال الحج وغيرها والكف عن المحظورات، وان المسلم مستعد لاصلاح حاله ظاهراً وباطناً.
وفي آيات الحج من سورة الحج دروس وتشريعات وعبر وحكم عظيمة من تدبرها قوى ايمانه ودينه ومن امثلة ذلك : قال تعالى: {وّإذً بّوَّأًنّا لإبًرّاهٌيمّ مّكّانّ البّيًتٌ..} فالله هو الذي شرع واختار وليس لنبيه ابراهيم الا التسليم، وقال تعالى: {وطّهٌَرً بّيًتٌيّ.} لأي شيء؟ للعبادة فقط {..لٌلطَّائٌفٌينّ وّالًقّائٌمٌينّ وّالرٍَكَّعٌ السٍَجٍودٌ} وفي اية اخرى {..وّالًعّاكٌفٌينّ..} وقال تعالى: {..أّن لاَّ تٍشًرٌكً بٌي شّيًئْا..} فالغاية توحيد الله ونفي الشرك، وقال تعالى:{وّأّذٌَن فٌي النَّاسٌ بٌالًحّجٌَ..}.
الامر اذاً عظيم اعلنه ابراهيم ثم اعلنه محمد صلى الله عليه وسلم، اعلان الحج للمسلمين فقط وطرد المشركين، فانهم نجس فلا يجوز ان يقربوا المسجد الحرام، ويضيف د. ناصر العقل: واعظم المنافع في الحج توحيد الله واجتناب الشرك والبدع والمحدثات،
ثمرات جليلة
ويرى الاستاذ الدكتور فالح محمد فالح الصغير الاستاذ بكلية اصول الدين بالرياض ان الله سبحانه قد فرض على عباده فرائض، وحد لهم حدوداً، وله في كل ذلك حكم واسرار ونتائج طيبة وآثار حسنة وثمرات جليلة، ومما فرض الله على عباده حج بيته الحرام، وهو خامس اركان الاسلام، فرضه الله على كل من استطاع اليه سبيلاً، ولذا صح عن علي رضي الله عنه مرفوعاً:« من ملك زاداً وراحلة تبلغه الى بيت الله ولم يحج فلا عليه ان يموت يهوديا او نصرانياً».
لٌيّشًهّدٍوا مّنّافٌعّ لّهٍمً ..}، ومن ذلك اداء خامس اركان الاسلام، فالمسلم اذا ادى هذه الفريضة كما ينبغي شعر بأنه برئت ذمته، ونجا من الوعيد الذي يلحق من مات ولم يحج مع الاستطاعة وعندما يرجع الحاج بعد اداء الفريضة الى بلده يرجع وهو قد استوعب حقيقة توحيد الالوهية من خلال تلبيته وطوافه لبيت الله والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في عرفة والمبيت في المزدلفة ومنى وهو يذكر الله وحده ويناجي ربه وينحر لوجه الله.
ويضيف د. فالح الصغير: والحاج متى ما عرف ان الله يغفر الذنوب جميعاً لمن حج حجاً مبروراً يرجى منه ان لا يعود الا المعاصي والذنوب شكراً لله سبحانه، لان الحج المبرور معناه ان يخلفه الطاعات لا المعاصي.
كما ان الحاج يتعود من خلال مناسك الحج على ذكر الله عز وجل في كل حين ويشعر بأنه فرد من هذه الامة العظيمة عندما يجد نفسه بين هذا العدد الضخم من الحجاج والمعتمرين، وكفى ذلك للمسلم فخراً وطوال فترة اداء المناسك يتعلم الحاج كيف يتعامل مع المسلمين باللين والرفق والرحمة بالضعفاء وذوي الحاجات كما يتعلم من خلال الحج التواضع مع الآخرين حيث يلبس كما يلبسون ويأكل كما يأكلون وينام حيث ينامون وفي الحج يشعر الجميع انه لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على اسود الا بالتقوى، وان افضلهم اتقاهم لله.
ومن منافع الحج التعود على تحمل المشاق والصبر على المكاره والقدرة على اجتناب المعاصي بانواعها من الرفث والفسق والجدال، ولزوم التقوى فترجع هذه على اخلاقه كلها لتكون حسنة كريمة.
عناصر الحج
ومن جانبه يؤكد فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن زيد الزيندي ان للحج اثرا عجيبا في تحريك راكد الايمان وبعث الحيوية فيه، ليس لدى المتدينين الذين تعرض لهم الغفلات وحسب بل وهذا هو الابرز في سنواتنا القريبة لدى اناس ذبلت بذرة الايمان في ضمائرهم، وغش الاسلام ما غشاه من لوثات الفساد الفكري والخلقي من مفكرين ومثقفين وفنانين ونحوهم ممن عاشوا حالة شرود عن ربهم ساقهم القدر للحج الى البيت العتيق، وما ان طافوا بالكعبة وسعوا ووقفوا بعرفة حتى اهتزت شخصياتهم فاعلنوا توبتهم الصادقة وتغيروا نحو الاقبال على الله وامتد ذلك في حياتهم بعد الحج، وحنيناً لتلك الحالة النفسية الرضية التي نعموا بها بجوار البيت الحرام واستعادة لما يمكن منها بقراءة القرآن والصلاة والدعوة الى الله.
قد يتساءل البعض: ماهي العناصر التي يشتمل عليها الحج ليتحقق هذا الاثر الكبير والتحول الحياتي العجيب؟
والحق انها تجتمع في الحج عناصر عديدة: اولها الانفصال عن المؤثرات التي يعيش الانسان في دولتها دون ان تتيح له فرصة الانشقاق ولو لحظات لحساب النفس، ثم النية التي تكون لبعضهم هي الاولى اقصد نية السفر لوجه الله خالصا كذلك المشاعر المقدسة، فقد فطر الله قلوب العباد على الارتباط بمشاهد مادية يشعر بقداستها وبرمزيتها الغيبية لتكون مدار حركتها، ونقطة جذب لها مهما تناءت بها الاقطار وعصف بها دولاب الحياة، فاذا اقترب منها الانسان شعر بتغير في خفقان قلبه، فاذا ما شاهدها حدثت له حالة نفسية عجيب لا تنسيه اهله واوطانه فقط وانما تشده من هذه الارض كلها نحو ما ترمز اليه كأنها قاعدة المكوك الفضائي التي يشحن فيها لينطلق منها نحو السماء ولهذا نجد ان الامم كلها بدافع فطري تصنع لها مشاهد ومزارات مقدسة لديها وميزة الاسلام انه جعل هذه المشاعر مداراً وموطنا لعبادة الله وحده لا لعبادتها ولا لعبادة ما ترمز اليه من دون الله.
ويوضح دكتور الزنيدي ان توحد الشخص مع امواج البشر الهادرة من حوله ومعه في حركة واحدة وهدف واحد ولباس واحد عامل تجريد للنفس من احساساتها غير السوية نفوراً من الخلق وجفاء مع الخالق واهم عنصر له اثره في بعث هذا الايمان وترسيخ التدين لدى الحاج هو الروح التي تصبغ الحج في كل حركاته وتحولات القائم به وهي التوحيد وانصراف القلب الي الله وتوجه الوجه اليه وتتمثل هذه الروح بالتلبية ابتداء «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك» ومثلها سائر الادعية والمناسك التي ينحصر فعل كثير منها بالتعبد الخالص لوجه الله تعالى.
دلائل مهمة للحاج
ويرى الداعية الشيخ عبدالله بن صالح القصير ان الحج الى بيت الله الحرام لاداء المناسك العظام فريضة عظيمة وعبادة جليلة شرعها الله تبارك وتعالى لحكم مثيرة وفوائد كبيرة، فمن اجل حكمه واعظم فوائده انه يرسخ الايمان في قلوب المؤمنين ويثبتهم على الدين وذلك من وجوه كثيرة اهمها: انه استجاب لله تعالي ولرسوله صلى الله عليه وسلم وانما يستجيب المؤمنون كما وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: {الّذٌينّ اسًتّجّابٍوا لٌلَّهٌ وّالرَّسٍولٌ..} وقال تعالى:{يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا اسًتّجٌيبٍوا لٌلَّهٌ وّلٌلرَّسٍولٌ إذّا دّعّاكٍمً لٌمّا يٍحًيٌيكٍمً..} فالاستجابة لله ولرسوله ايمان عظيم لانها دلالة على رسوخ الايمان بمشروعية الحج وبالمثوبة عليه.
ومن وجه ترسيخ الحج للايمان ايضاً ان العبد يستكمل بادائه دينه فالحج هو الركن الخامس من اركان الاسلام، فلا يكمل اسلام المرء حتى يؤدي حج بيت الله الحرام اذا استطاع اليه سبيلاً اما اذا لم يكن مستطيعاً فهو معذور.
ان النفقة في الحج ابتغاء وجه الله تعالي دليل على رسوخ الايمان ومن اسباب ثباته لايمانه ان الله تعالي يخلف عليه ما انفق بخير منه ويثيبه على نفقته فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:« انك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا اجرت عليه حتى ما تجعل في امرأتك».
من وجوه ترسيخ الحج للايمان انه مناسبة وظرف من احسن المناسبات للفقه في الدين.
ومن ابلغ مظاهر وادلة ترسيخ الحج للايمان ايضاً ان المؤمنون يتعارفون في الحج مالا يتعارفون في غيره فيجتمع المسلمون من اصقاع الارض فيحصل فيه تعارف وذلك من اقوى اسباب التآلف مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:« مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وما يحصل في الحج من التعاون على البر والتقوى يعد من دلائل الايمان ذلك انك اذا لقيت اخاك المسلم وشكا لك همومه فأشرت عليه بالرأي الصائب وابديت له النصيحة السديدة وساعدته بحل مشكلته المالية والاقتصادية وتوجعت لمصابه والمه فكان ذلك التعاون من اعظم ادلة قوة الايمان وثبات الايمان.
ومن وجوه ترسيخ الحج للايمان ان اداء المناسك على الوجه الذي امر الله تعالى به وبينه نبيه صلى الله عليه وسلم من الاتباع لما انزل الينا من ربنا وحسن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا من اظهر علامات الايمان واسباب قوته.
ويستمر الشيخ القصير في رصد دلائل ترسيخ الحج للايمان فيقول ان الدعاء في المواقف التي دعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحج من اقوى اسباب رسوخ الايمان والادلة عليه لان الدعاء ايمان لقوله تعالى:{فّلّوًلا كّانّتً قّرًيّةِ آمّنّتً فّنّفّعّهّا إيمّانٍهّا إلاَّ قّوًمّ يٍونٍسّ لّمَّا آمّنٍوا ..} ،
ولهذا رتب الخالق سبحانه وتعالى على الحج اجوراً كبيرة ومن اسباب تكفير الخطايا وازالة الفقر، فان العمرة الى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة وقال عليه الصلاة والسلام:« تابعوا بين الحج والعمرة فانه ينفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» فايمان المسلم بثواب هذا العمل وتصديه له وتحمله تبعاته ومشتقاته طلباً في ثواب من اعظم ادلة الايمان وقوته واسباب رسوخه ومن مظاهر قوة الايمان ورسوخه ان الحاج كلما انتقل في نسك او مشعر اذا هو يعلن الايمان والتوحيد.
يبقى ان الحج عبادة عظيمة باقية الى آخر الدهر، بعض السلف حجوا ستين حجة والحسن بن علي بن ابي طالب رضي الله عنه حج خمساً وعشرين حجة ماشياً على رجليه من المدينة الى مكة مع ان النجائب تقاد بين يديه وبعضهم حج خمسين حجة وستين حجة ويروى ان امرأة قالت: يا رسول الله اني اريد ان احج وانا شاكية تعني مريضة فقال لها:« حجي واشترطي فان لك على ربك ما استثنيت» يعني قولي ان حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، ارشد صلي الله عليه وسلم المرأة الاخرى التي فاتها الحج بسبب مرض زوجها وهلاك البعير قال:«ان عمرة في رمضان تعدل حجة معي».
هكذا ينبغي للانسان الحرص على فعل الخير سواء كان الحج او الصلاة او الصيام او الزكاة، اي عمل خير ولكن وفق الشرع، وما جاء في القرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الامة واتباعهم من ائمة الهدى والدين الى يومنا هذا.
|