لا أحد عموماً يجادل في أن اللغة العربية أحد جناحي «الهوية» في الوطن العربي، فهي المعبر عن خصوصية تلك الهوية، ولسان حال الفكر والوجدان، والإسلام جسرها الفولاذي المحكم الترتيب للتواصل، والتأصيل فتبقى العربية لذلك لغة جامعة لأبناء هذا الوطن العربي من العالم الإسلامي ما بقي لها حماة يمكنون لها في حياة الناس اليومية سلوكاً آلياً يترجم تفكيراً في تعبير عربي مرن، قد تختلف فيه حركات الكلمات لكن لا تتنافر الحروف ولا تتناقص، فمن باب أحرى نفي التناقض بين الكلمات وهي تدور على الألسنة من قطر عربي إلى آخر، حيث يبرز الاحساس بالمسؤولية في التمكين للغة «التداول» اليومية المشتركة بين أبناء أمتنا العربية مستغلين الامكانات التقانية المتاحة، والمنابر المختلفة، وتلعب هنا قنوات «التلفاز» الفضائية دوراً هاماً ينبغي أن يكون رائداً، بعد سحق قنوات «الخزي» و«العار» التي ألحقت كل الاذلال باللغة العربية، مما جعلني شخصياً أكثر من مرة «أستنجد» في بعض الصدف بشارحة في البيت توضّح لي ما «تلوكه» تلك المذيعة أو هذه، كأن «الجزائر» في كوكب و«لبنان» في كوكب آخر.
غير أن القدوة ينبغي أن تنطلق من المدرسة، أي من رجل التربية والتعليم، الذي يعلم ويربّي بسلوكه ولغته، لا أن يعلّم نظرياً اللغة العربية كقواعد، ويبيدها في الوقت نفسه بلسانه، يعلم بكلامه «المرفوعات» و«المنصوبات» وينصب في لفظه الفاعل، ويرفع المفعول به، حتى باتت العاميات «سيدة الموقف» في الفصول الدراسية، بل في مدرجات الجامعة، في قاعات تستوجب «كفرض عين» حضوراً تاماً للغة المادة «لغة العلم» وليست لغة الشارع التي ينبغي تهذيبها بيننا في أقطارنا العربية، تهذيبها في الحياة اليومية العملية، لذا - كما يبدو - أن الكوارث في «القدوة السيئة» بدأت من هنا، ومن أسوأ الصدف.. تلك اللحظات المتقطعة التي حضرتها ذات مرة في «مؤتمر دولي علمي...» أقطابه - نظرياً - من نخب الأوطان، وبينما لم تر المحاضر بالانكليزية يستعمل كلمة واحدة خارج لغة «المؤتمر» أي لغة «العلم».. فإن العكس وارد عن بعض العرب، حتى أن أحدهم نزلت شروحه إلى الحضيض باللفظ هكذا «علشان كده.. باستطيع أخش من هنا»، وهو لفظ دار على لسان «رجل تربية» كما هو مفترض، وليس بائعاً متجولاً.. في أحياء شعبية.
هنا يحضرني ما كتبه الأستاذ «معروف سويد» عن ذكرى حادثة بين «شكري» و«عائشة».. أي بين رمز «المعلم» الذي ينبغي أن يعلم بسلوكه نطقاً ولفظاً وحركة قبل مادة التعليم نفسها، فقال السيد «معروف»: «في مطلع الستينات كنت رئيساً للمجلس العربي الأعلى لمحو الأمية في جامعة الدول العربية، وكان مدير جهازه المرحوم محمد علي شكري نائب وزير التربية والتعليم أيام الوحدة المصرية السورية، وقد عمدت مع المجلس إلى المساهمة في انشاء أغلب الأجهزة في البلدان العربية، ومنها بلدان الخليج».
ثم يورد لنا ثلاثة مواقف عن سوء حال العربية بين أبنائها المتنافرين.. يهمنا هنا الموقف بين «الأستاذ شكري» و«التلميذة عائشة» أثناء زيارة وفد «محو الأمية» إلى «تونس»: «لقد قصدنا مكاناً بعيداً من القطر الشقيق، يقع في منطقة «عين دراهم».. وفي أحد فصول محو الأمية للبنات وكان أغلبهن من قبائل البربر، وقفت أمام اللوح الأسود فتاة في عمر الورود تحاول أن تكتب باللغة العربية، أخذت الطبشورة بيدها وتقدم مدير الجهاز محمد علي شكري وسألها عن اسمها فقالت: اسمي «عائشة» فقال: اكتبي اسمك يا عائشة.
وراحت تحاول كتابة اسمها على السبورة والواقعة السوداء كانت مع محمد علي شكري الذي راح يتابع الفتاة بنظراته وهي تكتب اسمها بصعوبة فبدأت هكذا «ع.. شا» فخاطبها شكري محاولاً مساعدتها وهو يفتح كامل شفتيه قائلاً: «عايءش ة» وتحاول الفتاة عبثاً كتابة اسمها فقال أستاذ الفصل لشكري: يا سي المدير.. مضى عليها أسبوع واحد في الفصل.. ويعاند شكري ويعود إلى الفتاة مخاطباً: بصي.. أي: انظري.. بصي أنا بعمل ايه؟ ولم تبص الفتاة.. بل أحنت رأسها ونظرت أرضاً، ولم ترد فقال لها: مالك يا بت «بنت» أنا ب أقول لك بصي لي.
ولا تبص الفتاة، وإنما تبدو عليها كما لاحظنا، علامات الخجل وبعض الغضب.. بينما تبدو على وجوه المرافقين لنا من اخواننا التوانسة اشارات الحيرة.. ومع هذا راح أخونا شكري يتبع عناده، فأخذ يصرخ كأن «أستاذيته» في محو الأمية قد أهينت وتقدم نحو الفتاة وأمسكها بكتفها فاستدارت ناحيته وأصبح الاثنان وجها لوجه، فقال لها متابعاً تهجئة الحروف، ومرة ثانية بتحريك ملء شفتيه:
- يا حلوة.. بصي في وشي «وجهي» شوفي ازاي ب «تطلع الحروف من بقي «فمي» ولا تبص الفتاة.. فينهرها قائلاً: إيه دا.. عجيبة.. يا بنت بصي في وجهي وخلصيني.
وكانت المفاجأة.. مفاجأة محو الأمية.. أن الفتاة عائشة.. قد رفعت كفها وضربت شكري «قلمين» كما يقول المصريون «قلما على الخد الأيسر» وتدخل المرافقون وحدثت حالة من الهرج والمرج.
- ليه؟ ليه؟ يا خوانا ليه؟ أنا عملت حاجة؟ هكذا راح يردد محمد علي وهو في غاية الحرج.
وفهمنا من الشرح الذي قدمه لنا الاخوة التونسيون أن كلمة بصي التي تعني «انظري» باللهجة المصرية، لا تعني «انظري» باللهجة التونسية بل تعني pisser «بسيّه» الفرنسية بالسين لا بالصاد.
وكلمة pisser أيها القارئ معناها «بولي» نعم بولي. وهي فعل أمر من بال يبول بولاً.. وقد انفجرت الفتاة بعدما قال لها شكري بصي.. ثم بصي.. ثم إيه؟ بصي في وجهي وما كان توجيهاً عند شكري كان قلة أدب عند عائشة.وبارك الله في لغة فصحى واحدة موحدة تجمع الشمل وتلم الشتات!
هي صورة من صور عربيتنا «المهزومة» بيننا، كما تجسدت في الموقف بين «شكري» الذي يخاطب صغيرة تونسية ريفية لا بلغة التعليم، ولكن بعاميته، وما كان عليها إلا أن تفهمها هي بعاميتها التي هي خليط من «الفرنسية» والعامية التونسية، ولو التزم «الأستاذ شكري» لغة «التعليم» الجامعة لما اضطرت «عائشة» لتصرّْف حين غلبت على أمرها فيه، ولما تساءل في الأخير «الأستاذ شكري» في النهاية أيضاً: «ليه؟ ليه؟ أنا عملت حاجة؟».وقد عمل رحمه الله «كل حاجة» فتخلى عن لغة عربية سليمة كان في مقدورها أن تسمح بفهم «تلميذته» وتشجعها على تعلمها واستعمالها في حياتها اليومية لتغدو لغة حياتية ووظيفية في الوقت نفسه، كما أنه لم يكن «مربياً» حين سها على أن الصغيرة لم يمض عليها في الالتحاق بالمدرسة أكثر من أسبوع، وهي لا تزال في معركة مع الحروف «الهجائية».
قبل اشاعة عربية مهذبة مرنة شاملة جامعة للشارع العربي من المحيط إلى الخليج، علينا أن نعيدها إلى قاعات الدراسة «بقوة القانون» الذي يعاقب «بدرجات» المعلم والأستاذ الذي يهجر أمام تلاميذه أو طلبته لغة المادة التعليمية إلى لغة الشارع المبتذلة بكل ترهّلاتها، وفقرها فضلاً عن سوء فهمها خصوصاً إن لم يكن المعلم أو الأستاذ من البلد العربي نفسه.
ألا.. رفقاً بلغتنا الجامعة للعقول والقلوب.. المانعة للتشرذم والتنافر، فلنعمل لغناها، عملا بها أداء في مواقع العمل، واثراء بها لحياتنا اليومية لغة مرنة ميسورة عذبة، على الألسنة والشفاه.
|