نعشق المطر، لأنه رحمة من البارئ عز وجل، ولأنه الأمل، وبالأمل يعيش بنو البشر، عشقه البدوي في الصحراء، والحضري على ضفاف النهر، وعشقه الجبلي في قمة الجبل، كما عشقه ساكن السهل.
دام عشقه قبل التاريخ وبعده، وسيظل معشوقاً ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة.
الإنسان يهنأ بالعطاء، ويتراقص على أنغام البذل ويستمتع بقيمة النوال، والمطر عطاء من رب العباد، وإحياء للبلد الميت، وهو ماء ثجّاج، يُخرج منه حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً، به يرتوي العود، وتتفتح الزهور، وتتشابك الخمائل، وتخضر الأوراق، ويونع الثمر، به تنمو البادرة، وتغسل التربة، ويتعمق الجذر، ويزيد المخزون.
واسترسل العرب وأسهبوا في وصف المطر والتشبيه به والكتابة عنه، واستخدموه في الجناس والطباق وصنوف البلاغة التي حباها الإله لهم، كما استخدموه في المديح والوصف، والغزل والرثاء.
فها هو ابن زيدون يمدح ابن جهور يشبه جوده بالسحائب التي إذا أقبلت تهللت الوجوه واستهلت الأنامل لأن وجهه يبشر بالمطر الغزير فيقول:
أغر، إذا شمنا سحائب جوده
تهلل وجه، واستهلت أنامل
يبشرنا بالنائل الغمر وجهه
وقبل الحيا ما تستطير المخايل
|
وقال في قصيدة طويلة يمدح فيها المعتضد:
كرم، كماء المزن راف، خلاله
أدب كروض الحزن بات يجاد
ومحاسن، زهر الزمان بزهرها
فكأنما أيامه أعياد
|
وقال في قصيدة أخرى يمدحه فيها:
لئن أنجزت منه الشمائل آخراً
لقد قدمت منه المخايل موعدا
|
أما ابن سهل الأندلسي فقال مادحاً أبا علي بن خلاّص:
وعم من جداك عموم الحساب
يسقي البلاد، ويسقى الفلا
|
وقال مادحاً:
هو الغمام يُرى رحماً وصاعقة
فارج نداه وكن منه على حذر
|
أما ابن هانئ الأندلسي فقد قال مادحاً:
لم يمطر الوسمي إلا بعدما
سيق الولي له وقد غمر الربى
|
وقال يمدح إبراهيم ويصف مجلساً بناه:
خصل البشاشة مرتوٍ من مائها
فكأنه متهلل جذلانها
ينذي فتنشأ في تنقل فيئه
غر السحائب مسبلاً هطلانها
|
هكذا كان المطر معشوقاً، لأنه النوال، والنوال محبب إلى النفس لتحقق الغاية، والغاية منتهي المنى، والناس على وجه البسيطة صنوف، فمنهم الذي سماؤه صافية، لا غيم فيها، فتربته ممحلة، وأرضه مقفرة، فيعرف الناس عنه ويتفرقون، ومنهم من هو جهام، لامطر يسقط منه، ويأمل الناس نواله، دون جدوى، ومثل هذا يتسابق الناس عليه ثم لا يلبثون أن يعودوا أدراجهم مع خيبة أمل، وهكذا يعيش ويعيش معه الناس، والثالث، جون ينهمر منه المطرا هتانٌ ورهام وغمر، فما من قاطنٍ إلا وقد ارتوى، وما من فقيرٍ إلا وقد اغتنى،
وما من محتاج إلا وقد نال بغيته، تتدفق إليه الأفئدة قبل الأيدي، وتتسابق القلوب على مصافحته قبل الأكف.
نواله غزير، وعطاؤه كثير.
فأي الناس شئت تكن؟؟؟
|