ترتفع وتيرة الكتابة الصحفية عن (القضية الشيشانية)، بتأثير من الاحداث (الروسية الشيشانية)، خارج إطار الحرب (كحادثة رهائن مسرح موسكو في شهر اكتوبر 2002)، مع غياب شبه تام عن التأثر بالأحداث المستمرة لذات الحرب ونتائجها، ولعل أبرز اسباب ذلك عائد لغياب هؤلاء الكتّاب عن وقائع الاحداث الشيشانية، وهذا في رأيي شيء مؤلم كون اهتمام هؤلاء الكتّاب يتركز على الآثار الخارجية للحرب (وخاصة الآثار السياسية)، مع تغييب شبه كامل للآثار الاجتماعية والنفسية و الجسدية اليومية على مسرح الاحداث الشيشانية، فأين هؤلاء الكتّاب من التأثر بها، ومن ثم الانطلاق الى معالجة ذات الاحداث، وطرح الاقتراحات.
ان تناول هذه القضية بعيداً عن جوهرها، كالطبيب الذي يمارس الطب عن بُعد (يسمع فيقرر العلاج)، دون الوقوف على حقيقة الداء، من هنا اقول (بحكم الاختصاص والقرب من القضية ومعايشتها طوال السنوات العشر الماضية)، ان معظم هذه الطروحات ليست الا للتسويق الذاتي إعلامياً سواء كانت بقصد او بدون قصد ، وهي بعيدة كل البعد عن تشخيص ذات القضية ومعالجتها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن القضية الشيشانية محاطة بمجموعة من المشاعر المتناقضة، والتي تؤثر بعمق في أي تناول موضوعي لها سواء كان سياسياً، ام اعلامياً، وأبرز هذه المشاعر:
1- مشاعر القيادات العسكرية الشيشانية والتي تعبر عنها بعض الرموز الممثلة لهم في الخارج، والتي تؤجج مشاعر الحرب، وترفض اي حلول جزئية او مرحلية للقضية، بمعنى المطالبة بتحقيق المطالب المثالية للقيادة العسكرية الشيشانية تجاه قضيتهم، بالنظر الى عقد زمني كامل من الحرب والمواجهة وما افرزه ذلك من ضحايا وتضحيات.
2- مشاعر القيادة العسكرية الروسية في الشيشان، التي ترفض أي حلول تظهر عجزهم العسكري في إنهاء المقاومة الشيشانية، وفرض سيطرتهم التامة على ارض الشيشان، وتبرز هذه المشاعر في التصريحات السياسية للقيادة الروسية في الكرملين.
3- مشاعرنا العامة المتعاطفة مع الشعب الشيشاني في قضيتهم، والمتأثرة بالحملات الإعلامية المصاحبة لجمع التبرعات الانسانية، وهذه المشاعر يغيب عنها كل شيء عن القضية الشيشانية عدا مشاهد الدماء والدمار والخراب، وهي حقائق لا غبار عليها، ولكنها لاتكفي وحدها لتكوين مشاعرنا بهذه الصورة العاطفية المجردة.
من هنا.. فإن الحديث عن القضية الشيشانية بصورة مباشرة، والانطلاق الى طرح الحلول العامة، في تقديري غير مثمر لاصطدامه حتماً بواحدة من تلك المشاعر، وبالتالي سيتعثر الوصول من خلاله الى حل مقبول، الا ان يكون الهدف الاساسي من ذلك مجرد الحضور الإعلامي ومنطوق عبارة (أنا هنا).
فالقضية الشيشانية في حاجة الى تحليل موضوعي لتاريخها، واحداثها، ومسبباتها بعيداً عن التأثر العاطفي المجرد الذي قد يغيِّب العقل في تحرير المسألة والوصول بها الى حل نهائي، وفي تقديري ان هذا هو السبب الرئيسي في ان هذه القضية منذ عام (1991م)، وحتى الآن تظل سؤالاً عالقاً لم يجد الجواب، بل لم يحظ بمحاولة جادة لإيجاد الجواب المناسب، فهذه المقدمات لا تفضي الى النتائج المطلوبة، وإلا فلم في عام (1996م) تنتهي الحرب وفق رؤية واضحة، واتفاق محدد، يتبعه انتخابات رئاسية، ثم تعود الازمة الى بدايتها؟ او ما قبل بدايتها؟
ويتكرر السؤال؛ لماذا لم تحصل هذه الازمة على الجواب العملي المناسب؟ وقبل محاولة الاجابة، وبالتالي الدخول في عمق تفاصيلها، تحسن الاشارة الى جملة نقاط متفرقة بشأن هذه الازمة، وإفرازاتها، ومن ذلك:
1- بدأت الازمة عام (1991م)، اثناء إعلان الشيشانيين استقلال بلادهم بزعامة الجنرال (جوهر دوداويف) عندها تم حشد القوات الروسية على اطراف الشيشان، وخاصة على الحدود مع جارتها وشقيقتها (أنقوشيا)، فهل كانت هذه الخطوة هي البداية المناسبة للشيشانيين في مسيرة استقلالهم؟
2- لم تبدأ الحرب التقليدية في حينها، ولكن بدأت حرب باردة وخاصة من جانب الشيشانيين، غلب فيها الحماسة على العقل، فلم يقدر الشيشانيون لهذه الحرب قدرها الحقيقي، فرقصوا كثيرا مع الاصوات العاطفية التي تقرر تفوقهم وشجاعتهم وأنهم قاب قوسي او أدنى من حسم الامر، فالدب الروسي وفق تصورهم غير قادر على احتمال المزيد، فاعتقدوا النصر قبل ان تبدأ الحرب، وكانت هذه بداية الهزيمة.
3- اعتمد الشيشانيون بداية امرهم على الرغبة في الاستقلال، دون تأمل حقيقي لقناعتهم بذلك، وقدرتهم على تحقيقه، ولا اعني القدرة العسكرية، فحتماً غير قادرين عسكرياً، ولكن القدرة على قيادة البلاد في ضوء الظروف الجغرافية، والسياسية، والاقتصادية للشيشان.
4- بدأت الازمة الحقيقية للشيشان مع ذاتهم وليست مع الروس، فهناك انفصال عملي واختلاف في الرؤى والاهداف بين الشيشانيين المقيمين في داخل الشيشان، واخوانهم في موسكو وغيرها، اضافة الى الإشكالات القبلية داخل الشيشان، ومن خلالها تكونت عدة قيادات حربية اضرت بالقضية الشيشانية في مراحل مختلفة، وأفقدت الشيشانيين ذاتهم القدرة على التفكير والعمل على تحقيق مصلحة الشيشان، وظهر ذلك جلياً في الفترة مابين الحربين: الأولى (1994 1996م)، والثانية (1999م).
5- ان معظم من ينادي للحرب ويصفق لها يقف خارج دائرة الحرب ذاتياً، وجغرافياً، واقتصادياً، فلم يذوقوا حقيقة الواقع، ومرارة الأزمة، بل ومعظمهم لم يسبق ان زار المنطقة، ودخل دائرة احداثها و اقعياً.
6- عاش الشيشانيون عقداً كاملاً من الزمن خارج الحياة الطبيعية (المدنية)، دون ان يتحقق لهم أي خطوة ايجابية في مسيرة الاستقلال، ويقابل ذلك جملة من السلبيات المتراكمة.
7- حيث يفرض العقل النظر والموازنة بين ما كسبه الشيشانيون وما خسروه في هذه الحرب، يمكن الاشارة الى الآتي:
- اكثر من (150 ألف) قتيل شيشاني من مجموع (850) ألف نسمة شيشاني بما فيه (النساء والاطفال والعجائز).
- أكثر من (50) ألف طفل يتيم، معظمهم ترعاهم مؤسسات اجنبية واغلبها غير مسلمة، وآخرون تتم رعايتهم خارج الشيشان، بل وخارج روسيا.
- آلاف من معوقي الحرب، والكثير من المرضى بأمراض نفسية و عضوية لم يجدوا الرعاية المناسبة لهم، ولن يجدوها في ظل هذه الحرب.
* فهذه جملة من النقاط الاساسية ذات العلاقة بهذه القضية في واقعها، ودوافعها، ونتائجها، وهي مرتكز هام قبل النظر في القضية ومحاولة معالجتها.
لقد تباينت التحليلات السياسية لأسباب استمرار هذه الحرب، وعدم وصولها الى نهاية بالرغم من انها بين طرفين محددين (روسي وشيشاني) في اطار محلي، وخلصت هذه التحليلات الى الآتي:
1- انها قامت ولا تزال بسبب المطالبة باستقلال الشيشان عن روسيا، (باعتباره مطلباً شيشانياً، مرفوض قطعياً من قبل روسيا)، فجاءت الحرب بين طرفي نقيض (مطالبة كاملة، ورفض تام)، واكبر تنازل بين الطرفين هو تأجيل النظر في ذلك الى وقت لاحق، وهذا الحل المؤقت بالتجربة لم يحقق استمرار الهدوء والتفاوض.
2- الوجود العسكري الروسي في الشيشان، باعتباره مطلباً روسياً لأي تسوية، وهو ضد السيادة التي ينشدها الشيشانيون.
3- تعدد القيادات العسكرية في الساحة الشيشانية، في ظل غياب المرجعية السياسية الموحدة، والتي تمثل الزعامة للشيشانيين.
4- وجود متنفذين من صميم مصلحتهم السياسية والاقتصادية استمرار هذه الحرب، ولديهم من الامكانات الفاعلة لاستمرارها.
5- سيطرة القيادة العسكرية والاستخبارية الروسية على قرارات الحرب ومجريات احداثها.
6- السعي الامريكي لاستمرار التوتر في الشيشان، لاستبعاد المنفذ الروسي لأنابيب نفط بحر قزوين، فيتحقق بذلك مع الخسارة الاقتصادية الروسية، تفكك استراتيجي في المنطقة خارج المنظومة الروسية.
* هذه مجمل التحليلات السياسية لكثير من المهتمين بالقضية ودراستها، وفي تقدير انها بصورة مجتمعة ذات صلة مباشرة، ولا يمكن تفكيكها وفصلها عن مجريات الاحداث، فهي عملية ديناميكية مترابطة لا تفهم الا على هذا النحو المترابط المتداخل، وبالتالي فإن محاولة النظر الى هذه القضية او السعي لتقديم اي حلول بشأنها يحتاج الى التعامل معها بصورة شاملة، ولاسيما انه بالاضافة الى هذه العوامل الداخلية المؤثرة في القضية الشيشانية، فإن هناك عوامل خارجية لم تكن مؤثرة بصورة كبيرة قبل احداث 11 سبتمبر، الا انها بعد ذلك اخذت مجرى آخر في التأثير في مجريات الاحداث الشيشانية، واصبحت تطورات القضية اكثر تداخلاً، فالسعي الامريكي للتواجد في جورجيا بحجة تطويق الارهاب المزعوم في السياق الامريكي، الا ان روسيا تدرك ان هذا التواجد الامريكي له أبعاد اخرى تسعى لخنق روسيا ذاتها (اقتصادياً واستراتيجياً)، والمغريات الروسية أقل بكثير من التأثيرات الامريكية على دول الجوار لروسيا (أعضاء رابطة الكومنولث البديل للاتحاد السوفيتي).
* إن النظرة المتشائمة في عمق هذه القضية تقول انه لامفر للشيشان من تطويقها بهذه الأزمة، فكأنما هو قدرها في هذه الحياة.
ولكن الحقيقة تدعو الى الوعي بأن الازمة قد بلغت مرحلة لايمكن ان تستمر معها على هذه الوتيرة، وانه لا بد لها من ان تأخذ وضعاً آخر، بمبادرة ذاتية روسية لدفع اشد الضررين بأخفهما وقطع الطريق على السرطان الامريكي العابث، او تحرك دولي تحت اي مبرر لتدويل القضية ونقلها الى مجلس الامن ويتحقق لأمريكا بجانب اضعاف الحق الروسي في نفوذها في المنطقة، وكي أي عرق يمكن ان يكون منفذاً لأي وجود اسلامي مستقل قريب من الجغرافية الاوروبية على غرار الحل المتهالك لقضية جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة، ثم أقليم كوسوفا المسلم!!
* ونحن بدورنا يمكننا التسليم بهذا القدر، وننتظر النتائج ونحن نردد قوله تعالى{$ّاللَّهٍ غّالٌبِ عّلّى" أّمًرٌهٌ $ّلّكٌنَّ أّكًثّرّ پنَّاسٌ لا يّعًلّمٍونّ} ونكتفي بذلك، ولكن مقتضيات النظرة والغلبة، ثم ان حقائق التاريخ تقودنا الى تحرك إيجابي فاعل واع بأبعاد القضية ومتطلباتها، تسعى لتحقيق الآتي:
1- الإسهام عمليا في رفع المعاناة عن شعب مسلم ضعيف عانى ما يكفي من ويلات الحرب والتهجير، ولغياب عقد كامل من الزمان عن الحياة الطبيعية التي هي من ابسط الحقوق الأدمية.
2- العمل على اغلاق ملف رئيسي في ازمة العلاقات الروسية مع المملكة على وجه الخصوص، وقطع الطريق على الحملات الاعلامية المغرضة ضد المملكة التي يقودها رموز يهودية في الساحة الروسية تسعى لمنع أي تطور في العلاقات الثنائية بين الطرفين مستفيدة من هذه القضية.
3- تجديد التأكيد العملي على المنهج السعودي في العمل على تحقيق السلم والعدل خلافاً لما يتم ترويجه.
وتحقيقاً لهذا الهدف النبيل، لا بد من عمل نشط ودؤوب يلم تفاصيل القضية بكافة متعلقاتها، ثم الإعداد الواعي لمرئيات عملية لمبادرة سلمية تتم صيغتها من مواقع قريبة من طرفي الحرب، وفي تقديري ان عصب هذه المبادرة هو العنصر المالي الاقتصادي الذي يعيد ملامح الحياة المدنية بالإسهام مالياً في اعادة إعمار البنى التحتية التي دمرتها الحرب، ويساعد على ان تضع الحرب أوزارها.
وللحديث بقية ما بقيت هذه الحرب.
للتواصل مع الكاتب/ فاكس: 4805154
|