Wednesday 5th february,2003 11087العدد الاربعاء 4 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قراءة في شرعية تسليم المجرمين لبلادهم قراءة في شرعية تسليم المجرمين لبلادهم
عبدالله بن ثاني

إن المتأمل في واقعنا يجد مرارة نتيجة عدم فهم كثير من الناس للنصوص الشرعية وتنزيلها على أحداث معاصرة، وأصبح الإسلام هدفاً للآخرين الذين يقيسونه على تصرفات المسلمين ولا يفهمون الفرق الواضح بين المسلمين والإسلام في عالم اليوم.يقتلون باسم الإسلام ويرهبون باسم الجهاد، ويروّعون باسم المصلحة العامة، ولو أنهم أدركوا تفاصيل السيرة النبوية لوسعهم ما وسع محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهم الذين عذبوا على يد كفار قريش وصدوهم عن سبيل الله ومنعوهم من الجهر بالدعوة حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منعته في قريش لم يسلم من أذاهم ففرضوا عليه الحصار ومنعوه مقومات العيش لما رفض صلى الله عليه وسلم مساومتهم فقال: «والله لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بيساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يتمه الله أو أهلك دونه». واجتمعت قريش بعد ذلك في خيف بني كنانة من وادي المحصب فتحالفوا على بني هاشم وبني عبدالمطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة علّقت في جوف الكعبة فحبسوا في شعب أبي طالب ثلاث سنوات واشتد الحصار عليهم حتى أكلوا الأوراق والجلود وازداد الأمر سوءاً لما مات أبو طالب قال ابن اسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً ودخل بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: «لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك»، ومع ذلك لم يلجأ بأبي هو وأمي إلى أساليب التصفية والقتل والإرهاب وحرب الشوارع وتفجير المنشآت، بل صبر واحتسب وعامل الناس معاملة حسنة أدت إلى انتشار الإسلام بين قبائل العرب ولم يرتض عرض جبريل عليه السلام بضم الأخشبين على أهل مكة بعدما خذلته القبائل في رحلته إلى الطائف والزمان والمكان يختلفان، إذ يستطيع المرء في ذلك الوقت أن يمارس حرب العصابات ويستخدم كل أدوات الإرهاب مع صناديد قريش ولا خوف عليه من الأجهزة الأمنية واستخباراتها، ويمكنه الهروب والاختفاء في البيداء والبيوت البعيدة دون أي مراقبة وترصد من أحد ولم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، بل كان يمرهم وهم يعذبون ويطلب منهم الصبر والاحتساب ولا أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم «صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة».
إن المصلحة تقتضي أن تعمم هذه النصوص والمواقف التي أضاءت التاريخ البشري فيما بعد، والتركيز على عدم الاستعجال في جني ثمار العمل الدعوي، وهذا ما أدركه المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما شكا له أصحابه من التعذيب قال لهم إن الرجل في الأمم السابقة يؤتى به وينشر نصفين من رأسه ولا يثنيه ذلك عن دينه. ثم ذكر أن الله ينشر هذا الدين ويعم الأمن والاستقرار حتى انه لا يخشى على الغنم إلا من الذئب وقال عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر: «إنكم قوم تستعجلون» أو كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث، ومن أخطر القضايا التي يجب أن ينبه عليها أن الذي يقوم بعمل إرهابي ضد مصالح المسلمين ويهرب يظلم الآخرون بهروبه من إخوانه لأنه يعرضهم للمساءلة والتحقيق وقد يترتب على ذلك ضرر كبير في أنفسهم وفي بيوتهم وفي مجتمعهم ومازلت أعجب من أولئك الذين يعارضون تسليم من يقوم بعمليات إرهابية في المجتمعات المجاورة بحجج واهية ويحتجون بعدم جواز ذلك شرعاً وهم في حالتهم تلك يمثلون قمة الجهل في تفاصيل السيرة النبوية التي لم تترك صغيرة ولا كبيرة في حياة المسلمين إلا وقد أحصتها وبينتها إما بفعل أو قول أو إشارة أو استنباط أو اجتهاد أو قراءة من عالم رباني، ويجب على الجميع احترام المعاهدات الأمنية والمواثيق الدولية بين المسلمين أنفسهم من جهة وبين المسلمين والكفار من جهة أخرى وعدم إعطاء الأعداء مبررات تحت ما يسمى رعاية الارهاب وإيواء الارهابيين، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد احترم مواد المعاهدة مع الكفار واليهود ونحن من باب أولى أن نحترم المعاهدات التي بيننا وبين جيراننا المسلمين كدولة الكويت مثلا عندما نسلم من يقوم بأعمال إرهابية في تلك الدولة ولا يتعارض ذلك مع الإسلام، والدليل على ذلك ما روته السيرة النبوية في صلح الحديبية بين المسلمين والكفار، وتم التفاوض على قواعد منها:
من أتى محمدا من قريش من غير إذن وليه أي هارباً منهم رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد أي هاربا لم يرد عليه، وبينما الصلح يكتب إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: فو الله إذاً لا أقاضيك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه فأجزه لي قال: ما أنا بمجيزه لك، قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل، وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه وأخذ بتلابيبه وجره ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم».وهذا يبيِّن مدى التزام المصطفى بالعهد مع الكفار مع أن المصلحة في ذلك قد خفيت على عمر بن الخطاب وكبار الصحابة رضي الله عنهم، الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة ثم اذعنوا لقرار المصطفى وقالوا سمعا وطاعة، لأنه ينظر للتاريخ ومراحله نظرة مسؤول يعطي الأمة درسا إلى الأبد.وهناك قصة أخرى في معركة بدر تبيِّن أيضاً مدى حفظه واحترامه للمواثيق والعهود مع ان المسلمين في حالة حرب مع الكفار وعددهم أقل بكثير من عدد الكفار وفي أول معركة بين الإسلام والكفر ومع ذلك لم يلتفت الأمين محمد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك واكتفى باعطاء درس للأمة إلى يوم يبعثون عندما قال لكاتم سره حذيفة بن اليمان رضي الله عنه «أوف بعهدك ونحن نستعين بالله» وذلك انه ضاع في الليل ودخل معسكر الكفار ولم يتركوه حتى أخذوا منه موثقا وعهدا أن لا يقاتلهم مع محمد صلى الله عليه وسلم وأعطاهم العهد فأطلقوا سراحة ولما عاد إلى معسكر المسلمين سأل الرسول وأخبره القصة فطلب منه أن يلتزم العهد والميثاق ولا ينقضه ليعطي المسلمين درساً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
وأشد ما يؤلم عدم فهم المسلمين لتلك النصوص الشرعية التي تطلب من المسلمين أن يحفظوا عهودهم ومواثيقهم لأن الحرب الدامية ليست هدفاً إسلامياً يحصلون من خلاله على الأموال ويبيدون في سبيلها الأرواح وإفناء الناس، وإنما كان الهدف الأسمى هو الحرية الكاملة للناس بإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد مخلصين له الدين وحتى أولئك الذين يدفعون الجزية من غير المسلمين يعيشون أحراراً في النظام الإسلامي الذي يكفل لهم مقومات العيش بلا استعباد ولا ذلة ولا أدل على ذلك من قول عمر بن الخطاب في قصة الذمي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟».وهذه الأريحية والشفافية جعلت الجميع يعيش في ظل الخلافة الإسلامية ورعاية حقوق الإنسان قبل أن تعلن هيئة الأمم ميثاقها بألف وأربعمائة سنة تقريباً.
وهذه الأحداث المعاصرة التي تعصف بالأمة تحتم علينا الرجوع إلى السيرة النبوية وقراءة الواقع بما يتفق معها واضعين في الحسبان تطور الآلات العسكرية وأساليب أهل الباطل في الصد عن سبيل الله، وتحتم علينا أيضاً أن ندرك أن بعض التصرفات التي في ظاهرها تنطلق من عاطفة إسلامية تقف أمام تحقيق مشروعنا الإسلامي العظيم، إذ تعطي أهل الباطل مبررات دولية للوقوف أمام المد الإسلامي، نعم إن المراجعة ضرورة وبخاصة إذا عرفنا أن التشدق بالتاريخ الذي سجن فيه الإمام أحمد بن حنيل وجلد بالسياط لفرض رأي المعتزلة عليه في القول بخلق القرآن وتبنى بعض الخلفاء ووجهاء الدولة العباسية، يجب أن يعرى وأن نذكر سلبياته ونقف من خلال ذلك على تعامل الإمام مع هذه الفتنة فلم يأمر أصحابه بالتخريب والتصفية وقتل المخالفين الذين أضروه ويعري أيضاً ذلك التاريخ الذي وُضع فيه الأئمة على ظهور حمير عرجاء لتطوف بهم أرجاء المدينة وكانوا يُجلدون بالسياط على أنغام ضحكات الأطفال والنسوة نتيجة الخلاف، فصبروا واحتسبوا ولم يأمروا تلاميذهم بمواجهة ذلك الضغط والتعذيب بتبني ما يدعو إلى الفتنة واكتفى الإمام أحمد بالصبر والاحتساب، وقال لو أملك دعوة مستجابة لدعوة ولي الأمر وأقام خلفه الجمعة والجماعات واكتفى الإمام البخاري رحمه الله بدعائه المشهور «اللهم اكفنيهم بما تعلم» ليعطوا الأمة درسا فيما يجب أن يكون عليه الخطاب الإعلامي في الأزمات من خلال تقديم المصلحة بعدم الاستفزاز وشتم الأعداء في مرحلة يجب أن تستحضر الأمة مثل هذه النماذج وتعالج قضاياهم على يد علمائها الكبار حتى يبتعد ذلك الخطاب عن إثارة الطائفية والعنصرية والعرقية وشتم الآخرين بأساليب لا يرضاها الإسلام كوصف بعض الأعداء بالدب الأحمر في المنابر الثقافية أو في بعض الفضائيات التي بدأت تطرح قضايا مصيرية مثل العلاقات بين أهل السنة والشيعة في وقت تداعت علينا فيه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فلمصلحة من يعمل هؤلاء؟؟
والله من وراء القصد

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved