Tuesday 4th february,2003 11086العدد الثلاثاء 3 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
تقدير المفكرمادياً
عبدالرحمن صالح العشماوي

ما تزال النظرة إلى التقدير المادي للمفكر قاصرةً في عالمنا الإسلامي، وما تزال النظرة «المثالية» للمفكر والعالم والداعية والأديب ترسم في الأذهان صورة سلبية غير منصفة لمن يشير منهم إلى حقٍ ماديٍ له مقابل بعض ما يقدِّمه من جهدٍ فكري أو علمي أو دعوي أو أدبي، وكأنَّ هؤلاء من طينةٍ غير طينة البشر، وكأنهم هم وحدهم المعنيون بالزُّهد في الدنيا، والاحتساب والتطوُّع، وكأنَّ إخلاص هؤلاء لفكرهم لا يتفق مع تقدير هذا الفكر مادياً.
لا أدري لماذا تشيع هذه النظرة غير المنصفة في مجتمعاتنا المسلمة، ولماذا يُغفل جانب التقدير المادي لوقت هؤلاء وجهدهم وعلمهم، وكأنهم لا يحتاجون إلى ما يحتاجه الناس من الملبس والمأكل والمشرب والمسكن، وكأنَّ السماء تمطر عليهم وحدهم وهم مستغرقون في دراساتهم ذهباً وفضةً.
هنالك خلل واضح في هذا الجانب في كثير من الجهات الرسمية وغير الرسمية في عالمنا الإسلامي، وما زالت أكثر كلمة تلفازية للشيخ عليِّ الطنطاوي رحمه الله، تحدَّث فيها عن الحقوق المادية «المالية» للمفكر والعالم والأديب، وأشار فيها إلى ضرورة إعادة النظر في هذه المسألة، وقال بطرافته المعهودة ضاحكاً، يلومني البعض على إصراري على «التلفزيون» بعدم تأخير مكافآتي المالية فأقول لمن يلومني اعطني أنتَ هذه المكافأة أسكتْ.
في الجهات الإعلامية والثقافية يجد المغنِّي والملِّحن والمخرج والممثل والمصوِّر وغيرهم من الفنيين تقديراً مادياً مناسباً لكلٍّ منهم حسب موقعه ومكانته، فإذا تعلَّق الأمر بالمفكر أو العالم أو الأديب تداعت إلى أذهان القائمين على تلك الجهات مفردات «الاحتساب، والتطوُّع، وعدم المتاجرة بالفكر»، فيسكت هؤلاء درءاً للغيبة عن أنفسهم، وينتهي كل شيء.
لماذا هذه النظرة غير المنصفة؟ ومن الذي قال إن الإخلاص لله سبحانه وتعالى ثم للعلم والفكرة والثقافة الصالحة يتعارض مع تقدير مالي مناسب لهولاء؟ من أين جاءت هذه التصوُّرات الخاطئة؟؟، ولماذا لا تجيء إلا حينما يتعلَّق الأمر بأصحاب الرأي والفكر والكلمة؟ وهل هذا من الإنصاف وأداء الحقوق؟؟
المفكر والعالم والداعية والأديب الصادقون مع ربهم، ثم مع أنفسهم، والمخلصون لمبادئهم لا يقدمون ما يقدِّمون من أجل المادة وأعراض الدنيا، ولذلك فهم يتعبون دراسة وبحثاً ومواجهةً وعناءً، وربما يلاقون من الأذى الشيء الكثير، ومع ذلك فهم لا يطالبون بمقابل مادي لما يقدِّمون مع أنَّ أحوال كثير منهم تحتاج إلى ذلك، ولكنْ.. هل معنى ذلك أنْ نهملهم من حسابات «المكافأة المالية المناسبة»؟، الفكر الصادق، والعلم النافع، والأدب الأصيل الموجِّه للناس، والثقافة المفيدة للأمة لا تقدَّر بثمن مالي مهما ارتفع، فهي أثمن من أعراض الدنيا الزائلة، ولكنَّ أصحابها بشرٌ لهم احتياجاتهم في هذه الدنيا فما الذي يمنع من تقدير حقٍ مالي لهم يسدُّ شيئاً من احتياجاتهم؟؟.
هل يتعارض تخصيص تقدير مالي مهما كان متواضعاً لهؤلاء مع الإخلاص؟؟ سؤالٌ نوجهه إلى العلماء لعل إجابتهم عنه تزيل هذا الغبش المحيط بهذا الموضوع.
في الأندية الأدبية التابعة للرئاسة العامة لرعاية الشباب مكافأة مالية رمزية لكل محاضر أو مشارك في ندوة أو أديب أو شاعر، مقررة ضمن ميزانية النادي تسلَّم إلى المشارك مع خطاب شكر لطيف حين انتهائه من مشاركته، تأتي دون تطلُّع من هؤلاء، ولكنها لفتة جميلة، وتقدير مشكور، وربما نفعت من أعطيت له مع أنها مكافأة رمزية لا تتجاوز ألفي ريال، فلماذا لا تفعل الجهات الأخرى مثل ذلك؟ وما هي بمشكلة مالية عويصة، ولكنها تؤدي دوراً مادياً ونفسياً مهماً.
إن مكافأة أصحاب الفكر والثقافة والأدب مسلك حضاري، وصورةٌ من صور الدعم المالي المؤدَّب لأناس بينهم الكثير ممن يحسبهم الناس أغنياء من التعفف فجدير بنا أن نبعدهم عن الحرج، ونقرر لهم ما لا يضرنا ولكنَّه ينفعهم، وإنَّ في أصحاب العلم والفكر والأدب مَنْ لا يحسن الخوض في المسائل المادية «المالية»، ويخجل من الحديث فيها، ولربما عانى معاناةً نفسية كبيرة قبل أن يعرض حاجته المادية على أحد، فلماذا لا نرفع عنهم هذا العبء؟ ولماذا لا نحفظ لهم حقهم المالي الذي يناسب أوقاتهم المبذولة للعلم وجهودهم الكبيرة فيه.
ومكافأة هؤلاء مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والولاة، فقد أهدى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حسَّان الجارية «سيرين» وإلى كعب بن زهير بردته، والإمام مالك رحمه الله استطاع أنْ يتفرَّغ للعلم حينما خَصَّص الوالي له من المال ما كفاه مؤونة الانشغال بالسعي له، والشواهد على ذلك قديماً وحديثاً كثيرة، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم والوعي إنَّ تخصيص شيء من ذلك يعارض الإخلاص لله سبحانه وتعالى ونزاهة العلم، بل إنَّ العالم المفكر والداعية وغيرهما من أصحاب الكلمة النافعة لن يتوقفوا عن أداء واجبهم انتظاراً لعطاء أحد، فهم يقدمون ما لديهم قياماً بواجب العلم ومسؤوليته، وهم يصبرون على قلة ذات اليد ويرضون من الدنيا بالقليل، وإن كان بعضهم قد يضطر إلى المال فيستدين ويعاني، وهو عند الناس من الأغنياء.
وهذا هو الذي يدفعنا إلى أن نعيد النظر في شأنهم، ويجعلنا نطالب الجهات التي تدعوهم لإقامة ندواتهم ومحاضراتهم، أو تطبع بحوثهم وكتبهم بأن تقدِّر ذلك تقديراً مالياً مناسباً إلى جانب التقدير المعنوي.
لا شك أنه ليس من الإنصاف أن يحظى أصحاب المناشط الأخرى الفنية وغير الفنية بمكافآت ماليةٍ قد تكون كبيرة ، بينما يظل أصحاب الفكر والعلم والأدب في دائرة «التطوُّع، والمثالية» التي لا سند لها من الحكمة والإنصاف، في وقتٍ أصبحت فيه الاحتياجات المادية «العادية» للناس تشكل عبئاً عليهم.
إشارة:


وفَرْقٌ بين زقُّومِ وشوكٍ
وبين ثمار أشجار النَّخيلِ

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved