ليس مهماً ان يكون حجم المصرف كبيرا أو صغيرا، اذ ان سلامته غير مرتبطة بالضرورة بالحجم، هنالك مصارف كبيرة غير سليمة واخرى صغيرة أو متوسطة قوية بفضل حسن الادارة والتزامها بافضل معايير المخاطر الدولية. كما ان الحجم يبقى نسبيا، أى ما هو كبير في لبنان يعتبر صغيرا في اميركا مثلا او متوسطا في المملكة العربية السعودية ومصر. المطلوب في كل الأنظمة المصرفية هو تأمين سلامة القطاع عبر تشريعات حديثة ورقابة مدروسة والتنبه إلى خطورة الانزلاق في حلقة الافلاسات التي عرفتها اعرق الدول في التاريخ الحديث. معظم الأنظمة المصرفية يخضع لعمليات دمج بين مؤسساته هدفها تقوية المؤسسات المندمجة، وبالتالي ضمان سلامج ودائع المواطنين.. تحقيق الدمج المؤسساتي ليس بالامر السهل، اذ يجب تنسيق العمل بين عقليتين ونظامين مختلفين مما يعرقل منذ البداية عمل المؤسسة الجديدة. من المفروض ان ينتج من الدمج مؤسسات جديدة ذات سلامة مالية مرتفعة، مما يخدم المصلحة العامة، كما يساهم الدمج في جمع الامكانيات المالية التي تسمح باعتماد التكنولوجيا الحديثة المتطورة. ويسهل توظيف وتدريب الموارد البشرية ذات الخبرة والكفاءة العالية، يسمح الدمج ايضا للمؤسسات بتوظيف اموالها بطرق افعل واسلم، بحيث تتم تغطية المخاطر بعائد اعلى. هذا لا يعني استحالة منافسة المصارف الصغيرة للكبيرة في ظروف مناسبة، خاصة اذا تمتعت بالادارة الجيدة. تدل الاحصائيات المتوافرة في الولايات المتحدة وغيرها على تحقيق بعض المصارف الصغيرة نجاحا ماليا كبيرا ونموا مدهشا يفوق ما توصلت اليه المصارف الكبرى الناشئة عن الشراء أو الدمج.
عرفت الدول الاسكندينافية الشمالية في بداية التسعينات ازمة مصارف حادة اعتبرت أولى الأزمات المصرفية الغربية الرئيسية منذ الثلاثينات. تعود أهم أسباب الأزمة الاسكندينافية الى: سوء الادارة المصرفية، ضعف الرقابة العامة، وسياسات اقتصادية سيئة خلقت عدم استقرار اقتصادي بالاضافة الى تحرير متسرع للأسواق المالية لم تكن المؤسسات المصرفية جاهزة له. شكلت الأزمة نوعاً من الصدمة النفسية للنظام المالي الدولي والغربي تحديدا، إذ كيف يمكن ان تحصل ازمات بهذا العمل في دول يموقراطية شمالية عريقة متطورة اقتصاديا واجتماعيا. واذا كانت هذه الدول معرضة لأزمات من هذا النوع وبهذا العمق، فما الذي يحمي الأنظمة الأقل تطورا في الدول الناشئة والنامية على السواء.
من اخطاء النظام المصرفي الاسكندينافي عدم وجود رقابة فاعلة قبل الأزمة. حاولت السلطات العامة ادخال التشريعات الرقابية المناسبة خلال الأزمة أي متأخرة جدا، فاستحال اطفاء النار. تؤكد الأزمة المصرفية الشمالية على دور مهم للدولة في انقاذ القطاع المصرفي من الانهيار التام. فبالرغم من الدور الحيوي الرئيسي الذي يلعبه القطاع الخاص، لابد للدولة من ان تؤدي دورها الانقاذي في تخفيف الخسائر وربما تغطية بعضها. الدور الأساسي للقطاع العام يكمن حتما في المساعدة القانونية أو الاشراف على عملية البناء وخاصة على عودة الثقة. ليس هنالك من نظام مصرفي حيوي وفاعل في غياب ثقة المواطنين والشركات به. دور الدولة الانقاذي يكمن في تجنيب المصارف بيع أصولها بأسعار زهيدة لتسديد الودائع، مما يعطل امكانات النهوض المستقبلية. هكذا تحمي الدولة عبر دعمها المالي المباشر القطاع المصرفي من الانهيار الكامل والنهائي. بالرغم من فوائد هذا الاجراء، لا ننكر خطورته وتأثيره السلبي في عمل المصارف التي يمكن ان تحتمي وراء الدولة في الأزمات ويمكن ان يدفعها هذا الى القيام بأعمال اقراضية ذات مخاطر عالية، متكلة على مساعدة الدولة مما يعطل الدورة المصرفية ويقلل من فاعلية النظام المصرفي ككل. لا ننكر ان الطريقة الشاملة التي اعتمدتها الدول الاسكندينافية لمعالجة ازمتها المصرفية كانت جيدة وفاعلة جدا اذ سمحت للقطاع المصرفي بالنهوض بسرعة.
من الطبيعي ان يكون تأثير الانهيار المصرفي على الاقتصاد مرتبطا بالحجم النسبي لهذا القطاع، ففي كوريا الجنوبية تصل قيمة الأصول المصرفية من الناتج المحلي الاجمالي الى حوالي 98% وفي تايلاند إلى 117% مقارنة بـ16% في روسيا. من الأهمية بمكان معرفة ارتباط التمويل بالمصارف لتقييم التأثير المحتمل للأزمة المصرفية على الاقتصاد ككل. في الدول الغربية حيث يتوافر التمويل غير المصرفي بسهولة، اي عبر اصدار الأسهم والسندات. يكون تأثير أية أزمة مصرفية خفيفا بالرغم من الدور المهم الذي تؤديه المصارف. والعكس صحيح بالنسبة لمعظم الدول الناشئة ولكل الدول النامية حيث تسيطر المصارف على القطاع المالي في غياب البديل. نذكر على سبيل المثال ان نسبة الأصول المصرفية من الناتج المحلي الاجمالي هي 214% في الأردن، 386 % في باناما و291% في مالطا. اما في الدول الغربية، وان وصلت هذه النسبة إلى معدلات مرتفعة جدا، فالتنوع المالي داخلها يحمي اقتصادياتها من خضات مصرفية اذا حصلت. نذكر ان نسبة الأصول المصرفية من الناتج المحلي الاجمالي هي 539% في سويسرا، 311% في بريطانيا و313% في المانيا.
لاشك ان معظم هذه الأسباب كانت وراء الأزمات المصرفية التي عرفتها الدول الناشئة مؤخرا وفي مقدمتهال تركيا والأرجنتين والأوروغواي، ولم تكن الأسباب القطاعية وحدها وراء هذه الأزمات المصرفية، وانما أيضا الأوضاع الاقتصادية والسياسية العامة التي خلقت عدم ثقة في الدولة ومؤسساتها، فالعجز المالي الذي عانت منه هذه الدول ولجوؤها الى الاقتراض المصرفي اضعفا الثقة في القطاع وكانا أهم اسباب الانهيار. تدل الدراسات الحديثة على ان نظام سعر الصرف كان من الأسباب الرئيسية لامتداد الأزمات المصرفية الى كل أنحاء الاقتصاد الوطني، بل الى خارج الحدود ايضا. فالدول التي اعتمدت نظام سعر الصرف الثابت أو المقيد عانت أكثر بكثير من التي اعتمدت النظام الحر، والأمثلة عديدة كالكاميرون والتشيلي ومصر وتونس. اما الدول التي عرفت ازمات مصرفية في ظل نظام سعر الصرف الحر، فهي قليلة جدا ونذكر منها كولومبيا والمكسيك ونيجيريا وسريلانكا. تدل التجارب على قدرة نظام سعر الصرف الحر على استيعاب الأزمات بسهولة، وبالتالي تخفيف وطأتها في الاقتصاد العام.
لابد من التكلم اخيرا عن المنافسة في القطاع المصرفي التي تنتج اسعارا وخدمات افضل للمواطن والشركات. فالاحتكار المصرفي موجود في كل الدول ويقيم عبر نسبة القروض والودائع التي تحملها المصارف الخمسة الكبرى. تصل هذه النسبة من ناحية الودائع إلى 58% في البرازيل، 91% في بوروندي، 80% في قبرص، 12% في المانيا، و21% في الولايات المتحدة. تكون المنافسة أقوى ويكون الاحتكار اخف عموما في الدول الناضجة ماليا نسبة للنامية والناشئة. كما ان معظم الأنظمة المصرفية يرتكز على تشريعات تضمن الودائع داخل سقف محدد للحساب الواحد في المصرف الواحد. واذا كانت طمأنة المواطن على أمواله هي السبب الرئيسي لهذه الضمانات، الا انها يمكن ان تدفع المصارف الى القيام بإقراض غير مدروس لعلمها مسبقا بوجودها. من الخطورة بمكان ان تشكل هذه الضمانات حافزاً لرفع مستوى مخاطر العمليات المصرفية وبالتالي تهديد سلامة القطاع ككل. من هنا خطورة رفع هذا السقف المضمون حتى في الدول الناضجة مصرفياً.
www.louishobeika.com
|